أصوات الصمت (9): غيابٌ يملأ المسافة

01 ابريل 2023
عمل للفنان الكويتي - الفلسطيني طارق الغصين (1962 - 2022)
+ الخط -

ننشر على حلقات رواية "أصوات الصمت"، للشاعر والروائي والناقد الراحل محمد الأسعد الذي غادر عالمنا في  سبتمبر/ أيلول 2021، وكان من طليعة كتّاب القسم الثقافي في "العربي الجديد"، وأحد أبرز كتاب فلسطين والعالم العربي.


17

لا أدري من أين كان ميرسول يستمدُّ ثقتَه بقدرته على اعتلاء دبّابة، بينما لم يكن قادراً على الحصول على إقامة مشروعة في الكويت، أو التجوال آمناً من مفاجآت الطريق بين الفيلّا والصحيفة. 

وحتى حين بدأ يتجوّل سرّاً مع التنّورة النسائية التي جاءته قبل أن يحلُم بها، لم ألحظ عليه اهتماماً بالحصول على إقامة كأنه نسي وجود الدولة والشرطة، أو نسي أنه يُقيم على الأرض لا بين صخور عسير الجبلية. 

كانت جولاته التي لا يعرف عنها سكان الفيلّا إلّا أخبارها، من دون أن يتمكّن واحدٌ منهم من إلقاء نظرة على رفيقته وجمالها الخيالي الذي يصفُه، تحدُث في كوكب آخر، ويعود في كلّ مرة من كوكبه مُبتهجاً بالمزيد من الأخبار، والمزيد من التعريض ببلادة حياة الطشّ أو أحلام أبو عوّاد البحرية، وفراشة المتصوّف التي لا يشكّ أن الكتَبة الكذّابين انتزعوا جناحيها بل وأحشاءها: "بعد أن تحوّل الناس إلى نملة وراء نملة، تدخل أهراء الملوك وتأخذ حبّة في كّل مرة وتخرج". 

الصورة الوحيدة التي ظلّ يعود إليها هي صورة خزّان أبو الخيزران الذي لم يخرج منه حتى من دخلوا سيراً على الأقدام أو عبر المطارات. 

منذ البداية كنتُ أعرف أن الحرّية لا تستطيع الوصول إلى مسرح

ولاحظ النمُّول مستمتعاً، بأنه يعرف أكثر من غيره:  

- "حكايته عن جولاته بين الحدائق بصُحبة المرأة التي جاءت أخيراً، تذكّرني بحكاية امرأة روسية بائسة قضت حياتها تتلقّى رسائل حبٍّ من عاشق مجهول فتعرضها على جيرانها مزهوّة وسعيدة، وتواصل أيامها مثل شجرة تتفتّح في غير موسمها، ولكنّ جيرانها اكتشفوا بعد وفاتها، أنها هي من كانت تكتب لنفسها هذه الرسائل. أخشى أنّ ميرسول يتجوّل في الحدائق المجهولة بصحبة نفسه". 

ووضع الميّت الذي فقد هويته بعد حادث التمييز بين النملة والنمّول يده على خدِّه وغرق في موجةِ تفكيرساكنة ثم تساءل: 

- "أنا نفسي عرفتُ نساءً يُشبهن امرأة الحدائق هذه، قد تكون هاربة من قصر ملك من الملوك أو نازلة من حُلم، مرّة حلمتُ بامراة، وفي الصباح وجدتُها بجانبي، ألا يهبط سكان الأحلام إلى الأرض؟".  

- "يهبطون بالطبع، ولكن ليس في غراج السيارات الذي تعمل فيه، وليس في المياه التي يصطاد فيها النائم، بل في الفيلّات التي يبنيها جمال في الضواحي الخرافية. يا جماعة دعكم من ميرسول وجنّيته، وفكّروا بمسرحيّتنا، هل نسيتم؟". 

كان هذا هو صوت أبو عوّاد قبل أن يغادر بأيام وهو يتفقّد أشرطته، ويعدُّ حقيبته، ويلتفت إلينا، وفي عينيه نظرة رثاء متردّدة، إلا أنها ظلّت عالقة في الهواء تذكّرني به كلّما تردّدت كلمة رحيل، أو سمعت شريطاً من أشرطته التي تركها لنا آملاً أن يسمعه الناس في يوم من الأيام.

لم يكن ميرسول حاضراً حين دار هذا الحديث في تلك الظهيرة، ولم يكن أبو القشب قد أطلّ بعد، ولم ينطقِ المتصوّف بشيءٍ، فتمنّى النمّول أن نتوقّف فعلاً عن الدوران في المتاهة التي ألقتنا فيها أخبار صاحب الكاهنة: 

- "سنعرف في النهاية حقيقة هذه الجولات، ولكن لنعُد إلى الخريطة".  

- "أية خريطة؟"، سأل المتصوّف مستفهماً. 

- "خريطتك أنت، أرضكَ التي لم يطأها أحد، ولا حتى حضرتك، أين نقف الآن؟ لا مكان لنا في ديار المفتي، والسيد الطشّ كاد يضربه في المرّة الماضية، هل نُقيم مسرحاً لنا في هذه الغرفة؟". 

- "لا. قام المسرح سلفاً، وأدّى كلّ واحد منكم دوره، وبشجاعة لا يمتلكها الكتّاب الكذبة، وسجّلتُ أنا كلّ شيء". 

- "أين؟".  

- "في رأسي طبعاً".  

- "رأسك؟ تحدّثنا عن مسرحية وجمهور وقباقب وأسماك وعصافير، وها أنت تتحدّث عن رأسك؟".

- "كلّها موجودة في هذا الرأس، ولن يستطيع أحد محوها، لا المفتي ولا عصابة أبي الخيزران، هل كنت تظنّني ألهو؟ منذ البداية كنتُ أعرف أن الحرّية لا تستطيع الوصول إلى مسرح، فما بالك بمسرح يراقب نصَّه فقمة، ويُخرجه بطين، وتمثّله دمى؟ نحن لنا مسرحنا ولهم مسرحهم، صاحبنا ميرسول بدأ يعيش الآن مسرحيته التي جاءت حتى قبل أن يحلُم بها، وها هو أبو عوّاد، والحديث له، يرحل إلى نيوزيلندا ليؤدّي دوره على مسرح بامتداد المُحيط، وسيكون لكلٍّ منا مسرحيته الحرّة التي لا تنتظر موافقةً من أحد، أعني حياتنا التي لن يقبضوا عليها".  

لا أعتقد أنّ النمّول فهم شيئاً من كلّ هذا، ولا الميّت بالطبع، ولا حتى أبو عواد الذي ردّ بخشونة: 

- "في الرأس فعلاً، ولكن إذا لم تتحرّك على الأرض، وإذا لم يعرف بها أو يشاهدها بؤساء الأرض، كيف تسميها مسرحية؟ أدّيتُ دوري بالفعل وأقوم به في أيّ مكان أكون فيه، ولكن ما هو دورُك أو دور رأسك، والعالم لا يوجد فيه مكان للنوم، ولا تجد فيه المرأة الملتاعة ابنتها الضائعة، ولا نجد نحن طريقاً إلى قُرانا على خريطة مسحت كل الطرق إليها، بل وبال عليها أبو الخيزران وكاتمة أسراره وشاعره المدلّل؟".

لا تتوقّفوا عن رواية حكاياتكم، المسرحية الحقيقية لا تكتمل أبداً 

عند هذا الحدّ أذكُر أنني فكرتُ بحجم الغياب الذي بدأ يتسلّل ويملأ المسافة بين ساكن وآخر من سكان الفيلّا. يستيقظ أبو عواد في منتصف الليل أحياناً، ويشاهد النائم واقفاً يُصلّي صلاةً في غير موعدها بجوار سريره، فيطلقُ شتيمة بينه وبين نفسه؛ ثم يغطّي رأسه بلحَافه ويُدير وجهه إلى الحائط ويُواصل نومه، ويحتفظ الطشّ بعد اليأس من اجتذاب حماسة حتى ذبابة في مكتب المنظمة لأفكاره، ودوره بنقمة دائمة تنفجر بين وقت وآخر، ويفقد شهيّته للبقاء أسيرَ الشاحنات الألمانية. 

وينغمر ميرسول بأخبار كاهنته الخيالية الجديدة التي سيقصُّ حكايته معها، ولاريب في أحد مقاهي عمان بعد وقت قريب على مستمعين آخرين، ولا يشعر النمّول مع كتبه أنّ مهمته انتهت عند هذا الحدّ، فهو محميٌّ بقناعة أن جبهته تملك الشراب السحري الذي لا يعرف أصحاب الفيلّا طريقهم إليه. الوحيد الذي ظلّ غامضاً، حتى بالنسبة لي، أنا الطائر الصامت في السنديانة، كان المتصوّف، فهو لم يتحدّث مرّة واحدة عن أي مكان يُمكن أن يمضي إليه: 

- "ربما سيظل مُقيما في رأسه". 

كان هذا آخر تعليق للنمّول قبل أن يغرق في الصمت. 

الميّتُ والنائم هُما الوحيدان اللذان يُثيران شفقتي الآن، ليس لأنني أجهل مصيرهما، بل لأن حياة تبدأ بالنوم وتنتهي بالموت، ما كان لها أن تُثمر حتى عناقيد بذور سمراء لا فائدة منها، مثل عناقيد أشجار النخيل الهندي الباسقة. 


18

إلى يسار مرسى السُّفن القديم، وفوق لسانٍ صخريّ يمتدُّ بضعة أمتار في البحر، توزّعنا مع اقتراب المساء جالسِين بين الصخورالناتئة بلا انتظام، وتحتنا مباشرة تتموّج المياهُ الضحلة الضاربة إلى السواد. 

ودار هذا الحوار. 

المتصوّف وهو يعدّ صنارة الصيد: 

- "لا تتوقّفوا عن رواية حكاياتكم، المسرحية الحقيقية لا تكتمل أبداً، وواهمٌ مَن يظنُّ أنه يصنع مسرحيةً مثلما يعدّ الخزّاف الطين ويشكّل جرّة، لا معنى لحياة مُكتملة مثل جرّة، لتكن مسرحيتنا ممّا لا يتوقّف عن الحدوث في أيّ مكان نكون فيه وفي أيّ زمن".
 
ميرسول مُسنداً ظهره إلى صخرة وبين يديه علبة تبغه الفضِّية: 

- "هذا ما كنتُ أردّده دائماً، القفز من نوافذ الحافلات والخروج من خزانات المياه الفارغة، ثم الحرية".
 
أبو عوّاد وبين يديه خيط صيد غاص طرفُه البعيد في الماء، وعيناه معلّقتان بنورس بحري وحيد يلوح ويختفي: 

- "حرّية من أجل ماذا؟ من أجل أن نتجّول في الحدائق باحثين عن فتاةٍ قد تهبط من أحلامنا أو لاتهبط؟ الحرّية - يا صاحب الكاهنة - لا قيمة لها إذا كنتَ ستدور بها بين الجدران." 

ميرسول يفتح علبة التبغ: 

- "هل تراني بين الجدران؟ أنا حتى لو كنتُ في حبة جوز سأظل حرّاً". 

أبو عوّاد يضحك: 

- "دعك من حرّية حبات الجوز الخاوية، إذا لم يكن الناس أحراراً لا حرية لي، وبالمناسبة هل كنت حرّاً في جبال عسير؟ هذا ما يبدو لك في عالم بدائي معزول، واسألِ الميت عن مدى حرّيته. بمعيارك أكثر الناس بلاهة أعظمهم شعوراً بالحرّية مثل صاحبك الجَدي وشعره ورباط أزهاره". 

سنجد طريقاً إلى قُرانا على خريطة مَسحت كلَّ الطُّرق إليها

الميّت متأمّلاً أشعة الشمس الغاربة، لا يفعل شيئاً، ولكنه يقول مُخاطباً نفسه: 

- "أحياناً أرى نفسي جرّة، وأحياناً نملة، أيّهما أنا؟". 

ميرسول يبدأ بلفِّ لُفافته: 

- "مع الجَدي وأزهاره، وبفضل دعوته لي إلى بيته، تحرّرتُ من الخروج مرغماً لأداء صلاة الفجر في البرد القارص، ونجوتُ من عصا لحيَّة لا تجوز صلاة إلا تحت أنظارها، كُن جَدياً بين الصخور ولا تكن حصاناً يدور في ساقية، هذه هي حكمتي".
 
المتصوّف يقف ويرمي خيطَ الصيد إلى أبعد ما يستطيع، فتغوص الصنارة في الماء وتختفي، ويعودُ إلى صخرته ممسكاً بخيطه: 

- "الحرية... هذا ماقصدته منذ البداية، لو لم نخلق أحراراً لمَا كان لأيِّ شيء معنى، تصوّروا معنى حياة جرّة تمّ تشكيلها ووضع الله لمسته الأخيرة عليها ثم لوّنها وأدخلها في الفُرن ثم أخرجها مشويّة صلبة لامعة. هل ترون من هدفٍ ومعنى لوجودها؟ المُشكلة ليست هنا، فالخالق ليس صانع جِرار، بل صانع أُناس أحرار، المشكلة تبدأ حين يرى بعضُنا نفسه مجرّد جرّة، ويرى بعضنا نفسه مجرّد سجين في جوزة، أو يختار أن يكون حصاناً في ساقية". 

النمّولُ هاتفاً من مكانه قريباً من المياه وراء صخرة: 

- "الحرية مسرحية فقدناها، لم نصعد على خشبة مسرح، لم يسمع أحد حكاياتنا، إذا كنت تريد أن نواصل رواية الحكايات، قل لي لأيِّ هدف".

المتصوّف بلا اهتمام: 

- "من أجل أن تتحرّر ولشيء آخر، قيل اطلُب الموت توهَبْ لكَ الحياة، وأنا أقول احكِ توهبْ لكَ الحياة". 

أبو عوّاد مخاطباً ميرسول مبتسماً: 

- "كُن جَدياً... ها... هذا وصف على مقاسك، ولكنْ لماذا تُريد تحويلَ الناس كلّهم إلى ماعز؟". 

ميرسول بإصرار: 

- "لاشأن لي بالناس وما يختارون". 

المتصوّف مصغياً: 

- "هذه سمكة، غمزت الصنّارة، أُقسم أنها غمزت، ألا ترون أنها تشدّ الخيط؟". 

النمّول من مكانه بين الصخور: 

- "لا أرى شيئاً، هذه رجفة مياه، البحر هنا ليس عميقاً، ولا سمك إلّا في الأعماق، ألم أقُل لكم؟". 

المتصوّف مستثاراً: 

- "اسكت، الصّمت، وإلّا هربت الأسماك". 

ميرسول يقهقه بصوتٍ عالٍ: 

- "سمك؟ هل تظنّ أن السمك يندفع الآن أسراباً ليتفرّج علينا؟ السمك يا صاحبي، وفي هذا الجو البارد، يتدفّأ في الأعماق حول ضوءٍ هادئ. مهما كان الأمر، كُن حوتاً ولا تكُن سمكة، هذه هي حكمتي الثانية".  

أبو عوّاد مُلتفتاً إليه مشدّداً قبضته على خيطه: 

- "أنا أُفضّل أن أكون في سِرب أسماكٍ تصنع الشباك لاصطياد حوتك الغبي".  

المتصوّف محوّلاً نظره عن الموقع الذي غاصت فيه صنّارته: 

- "كلاكما يُمسك بخيطه، وأنتَ يا سيد الأموات الحائر، وأنا أيضاً، لنعُدْ إلى هذه الحرّية التي تدوران حولها مثل سنجابَين...". 
النمّول متطلّعاً برأسه من وراء صخرته: 

- "أين هي السناجب؟ نحن ممثّلون فاشلون، اعترض طريقنا متكرِّشٌ بمسدّس لا يعرف كيف يُمسك به، وفقمة يصلح لسيرك، لا لإخراج مسرحيات". 

ميرسول يمرّر لسانَه على أطراف اللفافة ويدخلها في العلبة ثم يغلقها:

- "لو كان أبو القشب هنا لرأى فينا خَروفَين، ولو كان الطشّ، لرأى فينا مجرّد ثرثارَين عدوَّين للثورة، من نحن؟ أنا سأقول لك، نحن طَيْرَان هاربان من كلّ الشِّباك، وقع أحدُنا وتحرر الآخر". 

المتصوّف وهو يسحب خيطه ببطء: 

- "لا... كلّ ما في الأمر أنّ كلمة حرّية يلحقُها كلّ إنسان بما يراه مناسباً، نحن وعيٌ حيٌّ بالطبع لا جِرار كما قلتُ، وحين يسأل كلُّ واحدٍ منّا نفسه ما هي غايتُه وما هو معناه، تجيء أجوبة شتّى من الداخل والخارج، الحرّية؟ بعضهم يقول لنتتحرَّر مِن شيء ما أو أشياء كما تقول أنت، وبعضهم يقول لنتحرّر من أجل شيءٍ ما أو أشياء مثلما يقول أبو عوّاد، لا هذا ولا ذاك، الحرية من أجل أن نكون".  

أبو عوّاد يبدأ بسَحْبِ خيطه على عجَلٍ: 

- "فسّر لنا كيف نكون؟". 

ميرسول يسحب من العلبة لفافته المصبوبة: 

- "المهمّ أن لا تربط نفسك بساقية أو شجرة". 

المتصوّف يتأمّل نهاية الخَيط والصنّارة الخالية: 

- "لا تتعجّل... حرّية من أجل أن أكون، تعني أنني في حالة صيرورة، منفتحٌ على أن أكون هذا أو ذاك، أو كِلا الأمرين معاً، أو شيئاً آخر، لستُ أدري إلّا أنني أدخل تجربة، تماماً مثلما ندخل الآن في تجربة مع البحر، مَن يدري ماذا سينبثق من أعماق الماء بعد أن ألقينا خيوطَ الصيد؟ ومثلما دخلنا تجربة جماعية لتأليف مسرحيتنا، من يدري ما سينبثق عنها؟ ربّما انبثق شيءٌ أكبر من تفصيلٍ جئتُ به أو تفصيل جاء به أبو عوّاد، شيءٌ لا هو رباط بساقية، ولا هو رباط سائب، المهمُّ ما يأتي وما يتخلّق، فلتبقَ مسرحيّتنا مفتوحة، دعونا لا نضع لها قالباً، دعوها تتحرّك فينا وفي ما حولنا، ولا نفكّر حتى في تقديمها على خشبة مسرح".
 
أبو عوّاد يصل إلى نهاية خيطِه مُمسكاً بالصنّارة العارية:

- "اللعنة، أين هربتِ الأسماك؟".  

المساهمون