أصوات الصمت (2): نظرة طائر يرى بدايته ونهايته

11 فبراير 2023
عمل للفنان الكويتي - الفلسطيني طارق الغصين (1962 - 2022)
+ الخط -

ننشر على حلقات رواية "أصوات الصمت"، للشاعر والروائي والناقد الراحل محمد الأسعد الذي غادر عالمنا في أيلول/ سبتمبر 2021، وكان من طليعة كتّاب القِسم الثقافي في "العربي الجديد"، وأحد أبرز كتاب فلسطين والعالم العربي.



4

هذا هو المركز، أو البيت، أو الفيلّا كما اعتدنا القول حين يسألنا أحد أين الملتقى، أو إلى أين نحن ذاهبون. وهذا هو محور الحكاية التي بدأتْ بفكرة مسرحية يقوم سكان الفيلّا بتأليفها ويتوزّعون أدوارها، ويبحثون عن مسرحٍ لعرضها، ويتبرّع كلّ واحد منهم لبنكِ الدم بشيء من دمه لسداد المصروفات ودفع ثمن ملابس الممثّلين. ويحاول أبو القشب ابتزاز بضعة دنانير من صاحب الجريدة عارضاً عليه صورأصدقائه النادرين أمام الشاحنات أو على ضفاف البوسفور، ويمدّ صاحب التجويف يده في جيبه مُخرِجاً ليرة عثمانية ذهبية ورثها عن أمّه. 

بينما يكتفي جمال بوعدِ أن يتبرّع بأجرِ عملِ يومين حتى يُشاهد نفسه على المسرح، ولو لبضع دقائق بشرط أن يرتدي ملابس الفدائي ويحمل بندقية، وسيأتي دوري لاحقاً في هذه المسرحية بعد كل هذه السنوات، لألتقط شخصياتها وأحداثها، وأُعيد كلّ شيء إلى مكانه، واقفاً أمام البحر الذي خلا إلّا من بضعة أشجار سدر متناثرة بلا مأوى. 

نحن معتادون على أن نبدأ بالموجود في مقدّمة الصورة، ثم ندخل معه إلى أن يتلاشى في أُفق نفترض وجوده هناك في أعماقها. ولكن ها هي مسرحية غاب أبطالها، وغاب المكان ذاته بالمعنى الحرفي، أي أنه اختفى من على وجه الأرض. وصارت النظرة إليه، بحكم هذا الغياب، نظرة طائر يرى بدايته ونهايته، ويلمّ بأطراف الأزمنة في وقت واحد معاً. نظرة من رأى كلّ شيء رغم أن أي بلد لا يذكره الآن، وتسرّبت مياهُ الشاطئ إلى أخشابِ سفينته المهجورة، ونمتِ الأعشابُ في شقوقها. 

ربما حطّم بعضهم مرآته ليصل إلى ما وراءها وربما دخل فيها واختفى

رحل الجميع إلى آفاق مختلفة، بعضهم بثياب طائر، وبعضهم بثياب بحّار، وبعضهم بثياب فدائيّ، وبعضهم بثياب غريق، وبعضهم بقبّعة متشرّد عريضة، يجلس الآن في مقهىً من مقاهي عمّان، ويزعم وهو يردّ عليه أطراف معطفه الأسود الطويل أنه حفيد ماركيز فرنسي قطعت الثورة الفرنسية رأسه. 

الوحيدُ الذي ظلّ قابعاً ربما في الفراغ، من دون أن يتلاشى حتى الآن، هو وكيل صاحب البيت، جامعُ الإيجارات البدين في غرفته المُترفة المجاورة لغرفتي في الطابق الأول وراء آلة الطباعة البدائية، يطبع بإصبع واحدة قائمةَ الإيجار الشهري التي لا يوجد في دماغه سواها. يعيد تنظيمها، يرتّبها، يبتكر في كلّ شهر مادة يُضيفها إلى القائمة، فمرّة يضيف أُجرة هاتف، ومرّة استهلاك مسحوق غسيل، ومرّة شراء حبال غسيل.. إلخ، وما إن ينتهي من الطباعة حتى يخلو دماغه من كلّ شيء، فيتحرّك ويبدأ بطرق أبواب الغرف باباً بعد باب. 

هذا الفراغ المترامي الآن أمام البحر حيث كنّا، تطلّ عليه اذا عدتُ أدراجي مجمّعاتٌ سكنية ضخمة متعدّدة الطبقات بمواقف سيارات لوافدين لا يقرأون الصحف، لا يعرفون ناجي العلي، غامضين يعودون مساءً وينعزلون في شققهم، أشدّ صرامة ودقة في احتساب ثمن خطواتهم ومصروفاتهم وأصدقائهم وأغانيهم وأماكن زياراتهم وأحلامهم. لهذا السبب لن يكون من مهمّة الحكاية الإمساك بالمُتطايرين الذين عاشوا بلا سابق تدبير، واختفوا محرومين حتى من أبسط خريطة فقط، بل والتقاط شتات أحلامهم، هذا إن حلموا أو فكّروا بالحُلم، واستنطاق من ظلّوا صامتين زمناً طويلاً يمتدُّ حتى هذه اللحظة، أي لحظة مروري تحت أشجار النخيل الهندي الباسق. 

الأشجارُ لا تسمح لي بلَمْسِ مراوحها كما كنتُ أفعل، وكذلك هؤلاء الذين عزف كلّ واحد منهم معزوفته المجهولة، وتخيّل لنفسه في المرآة شبيهاًً أو مئات الأشباه. ربما حطّم بعضهم مرآته ليصل إلى ما وراءها، وربما دخل بعضهم فيها ببساطة، واختفى في زاوية من زوايا هذا العالم، لا أستطيع الوصول إليها بعد أن تقطّعت السُّبل وضاعت العناوين... وهل تبادلنا العناوين؟ 

كلّ ما أعرفه، أن أبا عواد المتقلّب على سريره كان دائم التفكير والشجار مع الطشّ، وخرج ذات يوم بفكرةِ العمل على سفينةٍ تصطاد السمك على شواطئ نيوزيلندة. وأن ساكن التجويف الذي احتفى بي، ودبّت فيه حيوية غير عادية حين فهم خطأ أنني من أبناء الكرمل. كان يتأنّى في حديثه كمَن ابتلع كلّ كتُب التصوّف الهندي، ويتناول كأساً من نبيذ يصنعه حسب وصفة مضمونة كما أسرّ لي، ولا يقول لي ولو مرّة إلى أين سيمضي. 

وأن عاشق كامو الذي احتفظ بقصة عجيبة جاء بها من جبال عسير، حيث مارس مهنة التعليم هناك في مدرسة بين المرتفعات، لجأ إلى عمّان ذات التلال الصخرية وبدأ برمي الحجارة على المارّة. وأن صديقنا الشهير باسم النائم، عاملُ المطبعة الملوّثة أصابعه بالحبر دائماً، والوحيد الذي كان يصلّي، بل ويكثر من الصلاة في غير أوقاتها، استيقظ ذات يوم فوجد إلى جانب سريره زائرة مدهشة، كأنها هابطة من صورالنساء الممتلئات، والتي يقصّها جمال بعناية مثلما يقصّ فضاءً حول تمثال ويلصقها بشهية على الحائط بجوار سريره، فقرّر أن يتزوّجها فوراً.

هل عاد إلى نومه؟ 

كلّ ما أعرفه أن النمّول الحريص على تجميع الكتب من دون غاية محدّدة، وتسجيل ورواية أخبار ونزوات سكان الفيلّا، ظلّ يؤكّد دائماً لأيّ زائر، أنّ النائم حتى حين كان يأتي دورُه في كنس الغرفة، يتناول المكنسة ويتحرّك وهو نائم أيضاً، بل وحدّث عنه أنه كان في رحلاته معهم إلى ألمانيا يظل نائماً، ثم: 

"صحا لأول مرّة في حياته، وما إن وجد الزائرة المُدهشة، وكانت في الحقيقة، أخت جمال، حتى أخذها فوراً إلى المحكمة وعقد قرانه عليها، وغادر الفيلّا". 

وأضاف ناظراً إلى سريره الخالي:

"وعاد إلى النوم". 

لا أحد يستطيع لمس رؤوس الأشجار العالية، وكذلك لا يستطيع أحد لمس أطراف الذاهبين فرادى وجماعات، وإن كنتُ أفضّل الحديثَ عنهم فرادى لا جماعات، فهم ينأون كما لو أنهم أصبحوا سكان كواكب ممعنة في رحيلها باتجاه السديم، لا تروى أخبارُهم سوى أقاويل من هنا وهناك نصادفها بين سنة وأُخرى، وفي هذه العاصمة أو تلك. 

من هذه الأقاويل، أن علي الطشّ سقط قتيلاً في بيروت على أطراف خلدة مع بداية الاجتياح الإسرائيلي، حين كانت متاريس بيروت تتقاصف بالصواريخ والقذائف والشتائم، فقد اعتاد بعض سكان الفيلّا بين فترة وأُخرى الالتحاق بفصيل من فصائل المقاومة. النمّول بجبهته الشعبية الأفضل كما يرى بين العربات لنقل البؤساء، والطشّ بفتحهِ التي تسحره أناشيدها، والنائم بمنظمته الغامضة التي لا يبوح باسمها حسب التعليمات. فيقاتلون حيث يضعونهم متنقّلين من شارع إلى آخر إلى أن يشعروا بالملل، فيعودون إلى الفيلّا ومعهم بضع رصاصات للذكرى تُصادَر في المطار أحياناً، وتتدخّل منظّماتهم لإطلاق سراحها وسراحهم.

لا أحد يستطيع لمس رؤوس الأشجار العالية ولا لمس أطراف الراحلين 

ومن هذه الأقاويل أن أبا عوّاد يرقد الآن في أعماق بحر بعيد، تمرح حوله الأسماك التي لا يراها لأن الظلمة اخترقت منذ زمن طويل عينيه وأذنيه وفمه، وما عاد سوى جمجمة مغروسة في الرمل وعظام محطّمة أو منخورة.

ومنها أنّ الميت لم يمُت، بل صحا ذات يوم ولم يعد يعرف طريقه إلى الفيلّا، فضلَّ الطريق وما زال ضالّاً حتى اليوم، لا أحد يعرف هل انتهى به المطاف بلا اسم في مستشفى للأعصاب، أم اتّجه إلى الصحراء المترامية الأطراف وراء حدود البصر؟ 

وأين انتهى المطاف بعاشق كامو، أو ميرسول كما كان يحبُّ أن يُطلق على نفسه؟ لا أعتقد أنه انتهى إلى زنزانة ينتظر حكماً بالاعدام، وتثير النجومُ دموعه مثلما أثارت دموع ميرسو "الغريب"، بطل رواية كامو. فمن يثرثر كثيراً لا يستطيع إقناع أي قاضٍ أنه قُتل فعلاً، بل ربما يقضي حياته يلفّ لفافات التبغ بيديه ملتذّاً، أو يرمي الحجارة من فوق التلال الصخرية على رؤوس الناس سعيداً أنه كائن خفي لا يراه أحد.

ولكنَّ أعجب الأقاويل جاء على لسان ضابط من فتح سمين تدرّب في كوريا الشمالية التقيته في دمشق، فحدّثني عرضاً عن عدد قليل من الفدائيّين الفلسطينيّين أرسلهم عرفات إلى كمبالا، لإنقاذ الجنرال الأفريقي الضخم عيدي أمين اعترافاً بفضله لأنه طلب من غولدا مائير خلال حرب أكتوبر أن تحمل سراويلها وتهرب من فلسطين بسرعة. وقيل لهم يومها إن بندقية كلاشينكوف واحدة، يمكن أن تسيطر على الأرض الممتدّة من كمبالا إلى دار السلام في تنزانيا.

سألته: "وهل سيطروا فعلاً؟". 

"سيطرنا! ضِعنا في الغابات هاربين، نجا بعضنا، وأنا منهم، بحقيبة عملات اكتشفتُ في ما بعد أن لا قيمة لها، وغرق بعضنا في المستنقعات".

وذكر لي هذا الذي نجا مع الهاربين اسم أحد الغرقى؛ صديقنا أحمد النمّول مسجّل وراوية نزوات وأخبار سكان الفيلّا. 


5

في لحظةٍ ما، لم يكن من المؤكّد أن يتبدّد سكّان هذه الغرفة المكتظّة بالأسرّة، أو السفينة إذا شئنا اعتماد وصف أبي عوّاد، وتختفي الآثار التي تقود إليهم، وينسى حتى الشاهد العابر تحت الأشجار نفسها التي مرّوا تحتها ملامحهم ومشاريعهم وأخبارهم. 

ولكن هذه اللحظة جاءت بالفعل بعد وقت قصير من خروج علي الطشّ بفكرة تكوين فرقة مسرحية، تكتب وتمثّل حياتهم، هم الذين يعرفون أعمق مما يعرف مخرج مسرحيات مكتب منظمة التحرير الباعثة على الضجر. فهُم على الأقل من يطلق الرصاص، ومن يعمل في حراج السيارات، ومن يكتب، ومن يسافر ليأتي بسيارة يبيعها، وهُم بعدَ كلّ شيء أصحابُ تلك الأرض التي فقدت أهلها، وبكت عليهم، وما زالت تبكي، وحين طلبتهم سمعُوا صوتها مخنوقاً كأنما يأتي من أعماق بئر.

معتادون على أن نبدأ بالموجود، ثم ندخل معه إلى أن يتلاشى في أُفق مفترض 

قبل فكرته بأيام جاءني الطشّ، وعرض عليّ شريط تسجيل صوتي لتدريباتٍ على مسرحية، شارك فيها بعد إلحاحٍ مخرج مسرحي يعمل مع مكتب منظمة التحرير يُدعى كراجة، فسمعتُ صوته ينبعث من آلة التسجيل صارخاً ومهدّداً مثل أي خطيب على منبر يقول مخاطباً شخصاً ما، أنتَ لن تتمكّن من قهر إرادة شعبنا، نحن أعلى من الشجر قامة، وأصلبُ من الصخر، وأقوى من العواصف... إلخ. فسألته:

"وأين يحدث هذا المشهد؟".

"في غرفة تعذيب... دوري هو دور الفدائي الذي يقع في الأسر ويتعرّض للتعذيب".

"لا... هذا يحدث على منصة خطابة وليس تحت سياط التعذيب... مَن خدعكَ وقال لك هكذا يجب أن يكون التمثيل؟".

"هذا ما حاولتُ قوله للمخرج، ولكنّه أصرّ على أن ألقي هذا الخطاب".

هذه الحادثة، وسخريتي من طريقةِ إلقاءِ الطشّ، ربما هُما ما أوحى له بفكرة مشروع المسرح الخاص ليتخلّص من ذلك المخرج ومنظّمته، ولكن استجابة سكان الفيلّا لفكرته بسرعة، توحي أنها لا بد دارت في أذهانهم منذ زمن طويل. 

أين ومتى؟

في مساربِ حياةٍ من هذا النوع، من العبث البحثُ عن انعطافة محدّدة. لكلِّ واحد من هؤلاء حلم أن يمثّلَ نفسه ولو مرّة واحدة، سواء على خشبة مسرح أو ناصية شارع، أو صفحات جريدة أو زاوية مقهى، ولكلّ واحد من هؤلاء ماضيه أيضاً، رغم أن لهم عملاً مشتركاً يقومون به في كلّ صيف، قبل أن تشتّتهم بقيّة أيام فصول السنة؛ بين من يسبت في الغرفة طيلة الشتاء، ومن يسافر إلى بيروت، ومن يتزوّج ويهجر زوجته بلا سابق إنذار، ومن يعود من فيلّات الضواحي متحدّثاً عن قصور لا تشبهها إلّا قصور ألف ليلة وليلة، ومن يتوقّف حديثه عن العبث والتمرّد ما إن تمرّ تنورة نسائية أمام مكتبه في الصحيفة، فيبدأ بالجَوَلان في الحدائق والمطاعم بصحبة فتاة يتخيّل أنها جاءت قبل موعدها، أي قبل أن يتسنّى له الحلم بها.

عملهم الصيفي هو السفر إلى ألمانيا معاً، ومعاً يرجعون بسيارات مستعملة من كلّ الأنواع، شاحنات، سيارات لنقل الركّاب، أو ما تيسّر وألقتْه المصادفة في طريقهم. وتمرّ قافلتهم هذه بعدّة بلدان في أوروبا الشرقية، تشيكوسلوفاكيا ورومانيا، فبلغاريا، فتركيا، عابرين البوسفور، ثم منحدرين إلى الجزيرة العربية من أعالي الفرات، فسوريا فالعراق. وأخيراً تلوح لهم وهم ينحدرون من أعالي المطلاع مدينةُ الجهراء الكويتية، ببيوتها الشبيهة بالصناديق الحجرية، فتنحدر القافلة وقد لطّخ الوحلُ عجلاتها والغبار، وتحطّم شيء من زجاج نوافذها، وتدلّت بارزةً على جوانبها حروف الكلمات الألمانية.

في هذه الرحلة تستوقفني منعطفاتٌ كثيرة، بل وتغريني، لأجد تلك اللحظة التي أطلقتْ في هذه النفوس المرِحة والساخرة والناعسة والبرّية شرارة الشعور بالحاجة إلى اعتلاء خشبة مسرح، وتقديم نفسها إلى العالم بوصفها الأصل والصورة، الممثّل والنص، الحكاية وأبطالها، فغيّرت حياتها وبدّدتها في وقت واحد معاً. 

أنهارٌ كثيرة في طريقهم، غاباتٌ وتلال وجبال، وشعوب من كلّ الأجناس تقريباً ومن كلّ اللغات. قد يكون باعث الشرارة أيُّ مشهدٍ من هذه المشاهد؛ قد يكون المدن العجيبة وهم يمرّون على أطرافها أو يعبرون ميادينها، وربما قضوا سويعات في باراتها أو توقّفوا على جوانب طُرقها السريعة. وقد يكون الوقفة على شاطئ البوسفور في انتظار العبور، ومرأى مآذن آيا صوفيا الأربعة، وصورة قافلتهم بهيئتها الزرية في مياهه، أو ضجيج الأسواق المزدحمة بالقرويّين وروائح الفواكه والخضروات، ورطوبة الشوارع الضيقة وسقوفها الخشبية، أو النساء المُرضِعات والحوامل والأطفال الحُفاة في القرى التي مرّوا بها. قد يكون كلّ هذا وربما أشياء أُخرى، لا تعيها ذاكرة هؤلاء العابرين، واحتفظ بها جهاز التسجيل الصغير الذي يحمله معه أبو عوّاد، ويفتحه بين آونة وأُخرى ليدور، ويسجّل أصوات الأمكنة التي يمرّون بها. 

في كلّ هذا لا بد أنّ كلّ واحد منهم مرّ بلحظته أو شرارته، أو دوره في مسرحية غامضة يتوقّع الوصول إليها، حتى وإن تأخّر الوصول يوماً بعد يوم. وأُرجئت الفكرة إلى ما بعد، إلى ما بعد شراء السيارات، إلى ما بعد مسارِ السفر الطويل، إلى ما بعد الاختلاط بالباعة والمشترين في حراج السيارات. وربما إلى ما بعد التوافُد على الغرفةِ المطلّة على البحر، وبعد تقاسم أرباح هذه التجارة التي لا يُجيدها إلّا صعاليك يُطلّون على العالم مدهوشين في كلّ مرّة يخرجون فيها للصيد، ثم يعودون بصيدهم مدهوشين أيضاً. 

خلال كلّ هذا، لا بد أن الأحاديث والمشاهد كانت تتوالى، فيتوقّف الطشّ فجأة: 

"ما رأيكم لو قضينا الليلة هنا تحت الأشجار؟".

أو يعود جمال بعد جولة في أحياء بلغراد أو صوفيا أو إسطنبول إلى مكان تجمّع القافلة: 

"تعالوا لتدخلوا الجنة التي وُعد بها الرحّالة والضائعون والمتمرّدون".

أو يصحو المتصوّف ساكن التجويف من غفوة عاجلة عند إحدى المنحدرات، فيستخرج زجاجةَ نبيذ من حقيبة مُلقاةٍ بين الأمتعة، ويصرّح أنه يفضّل البقاء حيث هو، فيسأله النمّول أو النائم، وماذا بعد؟ فيتمتم كمَن ينظر في مرآة:

"أترى ذلك الجبل البعيد وغاباته المعتمة؟ هناك سأبتني بيتاً وأقيم فيه إلى نهاية الزمان، الى أن أموت موتاً شبيهاً بموت غابة أو طريق، هل تعرفون كيف تموت الطرقات؟ صحيح أنها تندثر، ولكنّها تقيم هناك تحت التراب إلى أن يأتي يوم ويكتشفها الناس". 

لكلّ واحد منهم هذه اللحظة الحياتية المؤجّلة. ومع ذلك كانت اللحظات تتجمّع؛ الأمكنة والطرق والأحاديث، وشفافية المياه وزُرقتها، ومشهد الجبال وخضرتها، والأمطار أحياناً، وتغور عميقاً وتتّخذ لها مسارب تشربها النهارات المنتظرَة في الكويت، فيبيعون قافلتهم ويخلدون شتاء بأكمله في الفيلّا، يتأمّل كلّ واحد جسده انتظاراً للسنة القادمة، أو اللحظة التي جاءت أخيراً. 

المساهمون