أصوات الصمت (10): مكانٌ تنشطُ فيه الذاكرة

08 ابريل 2023
عمل للفنان الكويتي - الفلسطيني طارق الغصين (1962 - 2022)
+ الخط -

ننشر على حلقات رواية "أصوات الصمت"، للشاعر والروائي والناقد الراحل محمد الأسعد الذي غادر عالمنا في سبتمبر/ أيلول 2021، وكان من طليعة كتّاب القسم الثقافي في "العربي الجديد"، وأحد أبرز كتاب فلسطين والعالم العربي.


19

قال صديق المقهى وصوت الموسيقى يصلُ إلينا خافتاً، ولا يُسمع من الطاولات المُجاوِرة إلّا صوت الملاعق والصحون وبضع كلمات نصف مفهومة:

"هذه نهاية مُحزِنة، ولكنْ ما لم أفهَمْه كيف أنّكم عجزتُم عن إيجاد مسرح؛ المسارح في الكويت كانت كثيرة في تلك الأيام". 

قلتُ:

"نعم كانت كثيرة، ولكنّ مسرحية في الهواء الطَّلق ورحلات صعاليك، كلّ هذا خارج تصوّر أيّ صاحب مسرح، أضف إلى ذلك أنك فلسطيني تسلّطتْ عليكَ عيون عصابة أبي الخيزران، لا أحد يصدّق كم كانَ ظلُّ هذه العصابة ثقيلاً على أيّ فلسطينيٍّ خارج خريطتها. نحن كنّا نفكّر بخريطة بسيطة ونودّ أن نرحل على هديها، وهم يفكّرون بحَشْرنا على ظهر سفينتهم. أو سحْبنا وراءها عائمين مثل سلاحف بحرية. هل تعتقد أنّ من السَّهل حشْر أمثال هذه الطيور التي رأت الأفق، وما وراء الأفق، في أقفاص؟ كنّا - حسب تعبير الفقمة - شبّاناً فوضويّين من الصعب التعامُل معهم، ولم تتوقّف الأمور عند حدّ التعبير، فحتى حين ترتضي، مثلما اقترح المتصوّف، إقامةَ المسرح في رأسك، لن يبقَى رأسك بمأمنٍ منهم مثلما حدث مع صديقنا النمّول، لديهم شرطة تطاردك حتى في شوارع أحلامك".

كنا قد اخترنا زاوية بعيدة عن الضجيج، وخمّنت أنّ الزوايا هي أفضل الأمكنة التي تنشط فيها الذاكرة، ولكنْ كم من الأجنحة نحتاج لكي تنطلق أسماء أصدقاء الماضي، ويتحوّلون إلى فراشات أو يعاسيب، بدل أن يظلّوا مجرّد صور معلّقة في الفضاء، تظهر أحياناً وتضمحِلُّ في غالب الأحيان؟ 

لديهم شرطة تستطيع مطاردتك وملاحقتك حتى في شوارع أحلامك

"وماذا حدث للنمّول؟".

سأقول لك، نعم، حتى لو لجأتَ الى رأسك أو أحلامك لن تنجو، لأنّ المطلوب أن تتغيّر حتى لغة أحلامك، أن تنتزع الأجنحة ويتحوّل أبو عوّاد مثلاً إلى خشبة طافية لا سفينة، ويتحوّل الطشّ إلى ببغاء لا إلى طائر متكلّم، ويُؤخَذ النمّول إلى رحلة تحطّ به على حافة غابة أفريقية، ويقال له عليك أن تخدم الثورة، ويُؤخَذ الفلسطيني إلى الحدود التشادية ليهدِّئَ مخاوف الجنود الليبيّين من العفاريت في الصحراء، ولعلّ صاحبنا النائم كان أحد الرؤوس التي قذفوا بها في الصحراء الليبية على حدود تشاد ليقاتلَ أناساً لم يسمع بهم في حياته... اسمع قصّة النمّول واضحك... عاد النمّول في وقت متأخر ليلاً ليقترحَ إضافة فصل طريف غير متوقّع  إلى مسرحيتنا. 

فمع كلّ توجّس الطشّ وتحذيرات المتصوّف، لم يخطُر ببالنا أن الفقمة أو أبا الخيزران القابع، مثل حلّوف سمين في مكتب المنظّمة، يمتلكان سجناً، ومحقّقاً، وكلّ ما يلزم لإنشاء دولة لم يعُد ينقصها كما يبدو غير هذا، دولة أصبح لديها قادة قصار القامة مصابون بالبواسير، على الأغلب يهبطون من سياراتهم ويفتح لهم الحارس الباب، وينحني رافعاً يده بالتحية العسكرية، فيحيّيه القادة بجدّية بالغة، وينسلُّون إلى مكاتبهم وملفّاتهم، دولة أصبح لها شاعرٌ كبيرٌ، ووظيفة موظّفي مَكاتبها المساكين الوحيدة، في مختلف أنحاء العالم، نَسْخُ أشرطة أمسياته الشعرية لساعاتٍ طويلة ثم توزيعها بأي طريقة؛ دولة تُراقب بعناية كلّ ما يمرّ برأس لاجئ مثل المتصوّف، أو أبي عوّاد، واقتحام مخيّلته خشية أن يكتشف أن قائدها الرمز ليس سوى فقمة متخفّية بثياب إنسان. 

الطريف في فصل النمّول ليس هذا، بل ذلك الموقف الذي وجَد فيه نفسه حين استدعوه للتحقيق مع تهديدٍ بأن طائرة ستأخذه إلى بيروت، إذا لم يسارع إلى المجيء؛ فذهب، وهبطوا به إلى سرداب تحت الأرض، وهناك وجد نفسه على مقعد يُواجهه على مقعد آخر كائنٌ سمين، لا تصل قدماه الأرض بسبب انتفاخه، وقِصر قدميه، وفي يده مسدّس متقلقل بين أصابعه الغليظة. 

قال النمّول:

"كان يصوب إليّ مسدَّسه المُضحك طالباً منّي أسماء الذين أوحَوا لنا بالمسرحية، ومن يقف وراءنا، وأيّ جهة دفعت لنا الأموال، وإلى أيّ تنظيم أنتمي... إلخ. وهنا انزلق المُسدّس من بين أصابعه، وسقط على الأرض، فالتقطتُه وأعدتُه إليه بابتسامة مُشفقاً على هذا المُحقّق الماهر، وقلتُ له، وأنا أضعه بين أصابعه... هكذا يُمسَك بالمسدّسات".

وقهقه ميرسول عالياً وربّت على كتف النمّول:

"ها أنتَ تتعرّف على بشائر الدولة العجيبة... ولكنْ قُلْ لي كيف نجوت من سردابها؟". 

وهتف الميّت: 

"هذا والله ما رأيته في حلمي، كنتُ أركض حافياً بين تلال جنين فسقطت، فإذا أنا بين ذئاب ترتدي ربطات عنق، وقبّعات تطالبني بأن أتنازل عن اسمي". 

"لم تتنازل بالطبع... دعْنا من هذا التخريف، ولنسْمَع حكاية المحقّق الفقمة، ماذا أراد بالضبط؟". 

كان هذا أبو عوّاد. 

فعاد النمّول إلى مغامرته: 

"أرادَ معلوماتٍ عن مؤامرة على فتح والثورة، وما إلى ذلك من هُراء، مؤامرة اسمُها المسرحية التي تكتبها وتنوي تمثيلها عصابةٌ مدسوسة. وبعد أن استمعت إلى هرائه، قلتُ له اسمع، قبل أن تلوّح بمسدّسك، وحتى أريحك، أنا من الجبهة الشعبية، واتصل بمن تشاء لتعرف. وهكذا وضعتُ حدّاً لهذه المهزلة. صدّقوني طيلة الوقت كنتُ أشفق على هذا السمين الحائر بأصابعه الغليظة، ومسدّسه الذي يحاول الإمساك به بلا جدوى طيلة الوقت".  

علينا أن نذهب إلى الثورة قبل أن نُصاب بالإحباط

لم يدخل هذا الفصل في المسرحية بالطبع، ولم نجد حتى وقتاً لنُتابع أمرَ مسرحيتنا، ففي ذلك الشهر بدأت نُذر إعداد الدبّابات الإسرائيلية لاجتياح لبنان، فتأجّل كلّ شيء. كلّ شيء. كانت الاغتيالات وهجمات الطائرات تعلّق كلّ شيء، حتى نشْر ملابس على سطح الفيلّا، أو التفكير بجولةٍ بحثاً عن امرأة أو كتاب أو سمكة".

كلّ هذا تحدّثت به وصديق المقهى يتعلّق ذاهلاً بكلّ كلمة أقولها، يضحك أحياناً، أو يكتفي بالقول: 

"عجيب... عجيب!".   

بدا لي أنّ كلّ من حولنا غائبٌ تماماً عن هذه المَشاهِد، كأنهم سكّان شاطئ بعيد يلوّحون ويختفُون وظهورهم إلينا، ونحن نُبحر وحيدين بمحاذاة الشاطئ. يمكن أن يجلسَ الناس بمحاذاة بعضهم البعض من دون أن يعرف أحدهم الآخر أو يعرف أنه موجود مثلما يحدث الآن في هذا المقهى، ولولا هذه المصادفة التي جمعتني بهذا الصديق، لمَا عرف شيئاً عنّي أو عن يعاسيب الفيلّا، رغم أنّنا نعيش في المكان نفسه.

كان هذا هو سبب اعتراضي الدائم على فكرة المتصوّف الذي اكتفى بإقامة المسرحية في رأسه، فماذا لو أقام كلّ واحد منّا مسرحيته في رأسه؟ هل نكون أفضل من حجارة ملقاةٍ على الطُّرقات لا يعرف حجر بوجود الحجر الآخر؟ ألن يكون مصيرنا هو مصير أصحاب خزّان أبي الخيزران الذين لم يدقّوا جدران الخزّان فماتوا اختناقاً؟ 

ربما فكّر أبو عواد وهو يهرّب الكتب إلى أحفاد القرامطة بتعميم مسرحية من نوع ما، ربما كان حماس الطشّ البدائي للظهور على المسرح مصدره هذه الرغبة بإقامة علاقة مع الناس الذين يجهلونه بقدر ما يجهلهم، ربما كنا كلّنا نحاول بعفوية مجرّد الاتصال بالناس، أو خلق مساحة للاتصال، ولكن المتاريس في بيروت لم تكن محاولة للاتصال بالتأكيد، ولم يكن بعض سكان الفيلّا الذين استدعتهم منظّماتهم، وبدأوا يتهيأون للرحيل، ذاهبين إلى حوار من أيّ نوع. 

كان اعتقادهم أنّ المحقّق السمين بمسدّسه الذي لم يكن يستطيع الإمساك به جيداً، هو غير أولئك الذين يستعرضون المقاتلين في شوارع بيروت بعرباتهم، وأيديهم على مدافع مضادّة للطائرات من مخلّفات الحرب العالمية الثانية. 

"هو مجرّد متعيّش، علينا أن نذهب إلى الثورة قبل أن يصيبنا هذا وأمثاله بالإحباط".  

عبارة سمعتها وما زالت أصداؤها تتردّد في ذهني مثل حكمة مأثورة من صديق جميل عرفته في الكويت، كان يردّد كلّما سألته عن جدوى ثورة يقودُها أمثال هؤلاء، أبياتاً للبياتي تتحدّث عن روعة الموت من أجل المستقبل الآتي.

لم أكن أعرف حتى تلك اللحظة أنه سيذهب إلى عيون السيمان بسلاحه ولحيته، ويظلّ هناك رافضاً أن يهبط إلى بيروت، إلى أن يسقط قتيلاً بين الثلوج، ثم أقرأ اسمه على هيئة غزال راكض في قصيدة شاعر كان يُكثر من شرب الفودكا، ويلاحق النساء المتوحّدات، ويفكّر بكتابة شيء يُحاكي به كتاب رسول حمزاتوف "داغستان بلدي"، ثم يموت حزيناً مغموماً لأنه هاتَف أبا الخيزران، وطلب أن يقرأ على مسامعه أهزوجة مديح فأغلق سماعة الهاتف في وجهه.

المساهمون