(1)
لا أكفّ عن تذكر تلك القرية بمتعةٍ طفولية: بساطةٌ أقربُ إلى الفقر، وتفاصيلُ عصية على النسيان. ابتعدَ بها الزمن، أو ابتعدتْ به، حدّ الانخراط في نقطةٍ سديميةٍ لا عودة منها. لكنّ خيطاً خرافياً، دافئاً ونحيلاً، ما زال يمتد بيني وبين أكواخها الطينية الصابرة. تماماً كما كانت تمتدّ سدّتها الترابية حتى تربطها بمدينة الكوت، مركز محافظة واسط.
ومذ فتحت عينيّ على الحياة، في تلك القرية الضائعة في أرياف واسط، ورائحة الغرين تملأ الكون من حولي؛ وأبٌ يملأ طفولتي بالأمان، جداول طافحةٌ بالماء الخابط، وحقولٌ على امتداد نهر دجلة. كانت تُخَصّص في الغالب لزراعة اللوبياء، والباقلاء، وفواكه الرقي والبطيخ، والشمّام الذي كان يملأ الجوّ بتلك الرائحة الخاصّة.
وقد ارتبطت نشأتي الأولى بمفارقة لا أزال أجد لذةً في تذكرها: كان أوّلَ ما استوعبته ذاكرتي: كوخُنا الطينيّ، ونسخةٌ من القرآن الكريم، وكتابٌ في الأدعية الدينية، لم أعد أتذكر عنوانه على وجه الدقة.
كان أبي فلّاحاً ويعرف القراءة والكتابة. حقيقةٌ شديدة البساطة، لكنّها نادرة الحدوث في تلك الأيام، وفي ذلك الوسط الريفي البعيد. كان أكثر من فلّاح، وأقلّ من مالِك أرض. شديد اللطف والحنوّ لكنّه بالغ الصرامة أيضاً:
لا فأسَ
لا ملعقةٌ من ذهبٍ
لا رمحَ في كفّيهْ..
لا خنجرٌ يضيءُ، لا مسدّسٌ
لا شيءَ أنقى من دلالاتِ اسـمهِ
لا شيءَ أقسى من حصى يديهْ...
كان تجسيداً لكلّ تلك التناقضات في اللحظة ذاتها. قام بدور أساسيّ في تعليمي القراءة والكتابة مع إخوتي الثلاثة. وكنت، كما يبدو، أسرعهم تعلّماً. وربما كان ذلك هو السبب في إلحاحه عليَّ لأحفظ عدداً من الأبيات الشعرية إضافةً إلى ما أتعلمه من القرآن الكريم.
وكان ما يحفظه من الشعر أو النوادر، أو كلام الأجداد هو خميرة التذوق الأول. إنه أسطورتي الصغيرة الأولى، المشوبة بالكثير من الغرابة والبعد عن المألوف. إذ من النادر تماماً، في تلك القرى الريفية البعيدة وفي مجتمع إقطاعي شديد القسوة، أن تجد فلاحاً بسيطاً يعرف القراءة والكتابة، وأشياء أخرى تقع على مقربةٍ منها، وله منزلةٌ كبيرةٌ لدى الشيخ الذي كان يملك تلك الأراضي الشاسعة بكل ما فيها، وما عليها، من بشرٍ وحجرٍ وكائنات.
(2)
حرص الشيخ الكبير على أن يعهد إلى والدي مهمّة ليست يسيرة: تعليم ابنه الذي كان في مقتبل العمر، فظّل هذا الابن يرافق والدي مرافقة التلميذ لأستاذه. يتعلّم منه الكثير من مفردات الحياة، ولطف المعاملة، وحسن الحديث، والصبر على الحماقات. وكان يحظى، على عكس أخوته من زوجة أخرى، بمحبةِ الناس واحترامهم.
غير أن هناك ما يعاكس مهبّ الريح أحياناً. ثمة كراهيةٌ كانت تدبُّ في الأرجاء. أخوة الشيخ الشاب، استاءوا من حظوته تلك. كانوا معروفين لأهل القرية، بالغِلْظة وحدة الطبع. ولذلك، ربما، كانوا يعيشون بعيداً عن قصر الشيخ، محرومين من نبله وحياته المرفهة.
أحسست بعد رحيل أبي بأنني قد هرمت فجأة رغم صباي
وهكذا نال والدي بعضٌ غيرُ قليلٍ من كراهية الأخوة لأخيهم، في تلك الليلة، التي أضاء ظلامها خيطٌ من دمٍ نبيلٍ لا يُنسى. كان أبي والشيخ الشاب، في مجلسٍ يَجتمع لتسوية خلافٍ بين الشيخ وأخوته. وكما لو أن ثمة نيّةً مبيّتةً لما سيحدث، اندفع غضبٌ مفاجئ، كان يتربّص في زاويةٍ ما من المجلس. ارتفعت الأصواتُ، واحتد النقاشُ، وتدافعت الأجساد، وتشابكت الأيدي، ثم ارتفعت في الهواء المعتم عصا، برأسٍ حديديةٍ جارحة، وهبطت على هدفها بقوة.
أحسّ أبي لحظتها أن نبعاً حاراً مؤلماً، في أعلى رأسه بالضبط، كان ينبض بعمق، ليتطور، في ذلك الظلام، إلى خيطٍ يدبُّ دافئاً، تحت يشماغه الأزرق الغامق وثيابه، حتى نهاية ظهره، مشوباً بألمٍ مكتوم.
لم يعلم أحدٌ غيره، وغير الفاعل طبعاً، بما جرى في تلك الليلة، لم يسمع أحدٌ صيحة جزعٍ، أو آهةً تندّ عن السيطرة. وظلّ الدمُ، بفضل حكمة صاحبه، مصوناً وعزيز النفس. لم يشمَّ أحدٌ رائحته، ولم تهبط إلى الأرض قطرةٌ منه.
أين ذهبت تلك الضربة إذاً؟
هكذا ربما تساءل من خطّط لما حدث.
فزعتْ أمي حين طلب منها والدي أن تُعِدّ له عطّابةً سريعة، بينما سارع هو إلى نزع ملابسه. لم يكن الجرحُ عميقاً جداً لكنه ما زال يتنفّس بحرارة مؤلمة. أسكتتْ أمي فـم الجرح بمحبتها، وبرماد القماش المحروق، ثم تتبعت طريق النبع تنشّفه بقطة قماشٍ أخرى.
كان أبي شديد الحضور: طويل القامة، عفيف اللسان، ولا يغضب إلا نادراً. يقرأ ويكتب، ويتحدث بوقار، وقلما يضحك بصوت مجلجل. كان ينحدر من سلالةٍ تحظى باحترامٍ خاصٍّ بين سكان تلك المناطق في وسط العراق وجنوبه. تعلمْتُ على يديه القراءة والكتابة وتعودت منه اقتراف الكلام الجميل أحياناً.
ما زلتُ أذكر أن نصيبنا من قراءة القرآن والشعر والقصص والنوادر يتضاعف في شهر رمضان والأيام الأولى من محرم؛ ففي هذين الوقتين تحديداً كان يأتي إلى القرية، قادماً من النجف، أحد الرجال المعممين لإحياء بعض ليالي رمضان، أو للقراءة في أيام عاشوراء. كان صديقاً لأبي وكان يقيم معظم أيامه لدينا. ومع ذلك لم نكن نجده، أخوتي وأنا، قريباً من نفوسنا؛ فكم حرمتنا دروسه وملامحه المتجهمة، من الاستجابة لنداءات الطفولة ومطاردة طيورها الفاتنة.
وكثيراً ما كان يصطحبني أبي معه إلى الديوان، وهو مجلس الفلاحين، حيث يجتمعون فيه لشرب القهوة والشاي وتبديد وحشة الليل بالأحاديث، فيطلب مني قراءة ما حفظته من شعرٍ أو آياتٍ قرآنية، وكأنه كان ينمّي فيّ، بوعيٍ منه أو بدون وعي، قوة الذاكرة والقدرة على الحديث دون تردد أمام الآخرين.
(3)
أخذت بعض الأكواخ، في قريتنا الصغيرة، تخلو من ساكنيها تدريجياً، بعد أن هجروها متوجّهين إلى بغداد، حاملين معهم فقرهم وعاداتهم، وأغانيهم المجرّحة، وكان من بينهم بعض أقاربنا. وهكذا بدأ الحديث بين أبي وأمي عن ضرورة إرسالي إلى بغداد للدراسة هناك. كانت بغداد، بالنسبة إلينا، كوكباً نائياً، أو عالماً من عوالم "ألف ليلة وليلة". وقد لعبت أمي دوراً كبيراً في طرح فكرة الدراسة وإقناع والدي بها. فقرّر، ذات يوم وبسبب إلحاحها الدائم، إرسالي إلى بغداد مع صديقٍ له يقيم هناك وكان قد جاء لزيارتنا في الريف.
كانت بغداد بالنسبة إلينا عالماً من عوالم ألف ليلة وليلة
في الصباح الباكر جاء الباص الخشبي يتمايل، شاحباً وبطيئاً، على السدة الترابية، وهو يمر على القرى المتباعدة واحدة واحدة. أمضينا ليلتنا في مدينة الكوت: تلك المدينة التي يحتضنها نهر دجلة بحنوٍّ كبير. كانت تلك الليلة، بالنسبة لي، حافلة بالدموع والحنين والتردد. لم أكن قادراً على تخيّل ما أنا مقدم عليه: في مدينة غريبة، دون أبويَّ وبعيداً عن أخوتي. أدرك الرجل أن سفري معه إلى بغداد أمر بالغ الصعوبة وأنا في تلك الحالة. وفي اليوم التالي، أوصلني إلى موقف السيارات التي تتوجه، عصراً، إلى القرى البعيدة. ومن بينها ذلك الباص الوحيد الذي كان يتوجه، كل يوم، من قريتنا وإليها. ودّعني الرجل بحزن، وواصل هو طريقه عائداً إلى أهله في بغداد.
وحين تحركت السيارة بي في طريق العودة إلى القرية، لم يكن معي غير ظهيرة كئيبة وإحساس بالخوف، وكيس صغير من البرتقال أتيت به هدية لأمّي وإخوتي.
وفي ذلك المساء الخريفي، سألني أبي، وكنّا مجتمعين إلى موقد النار، عن سبب عودتي المفاجئة. بدا، في تلك اللحظة، وكأنه ينظر إليّ من حزن عالٍ لا نهاية له. لا أذكر تماماً ما قلت، غير أنّ ما أتذكره جيداً هو أنّ قبضته الفولاذية كانت تغمد كفّي، حتى الرسغ، في تلك النار المتأجّجة. وما زال دخان ذلك الموقد ورائحة يدي المحروقة يتصاعدان من ذاكرتي حتى هذه اللحظة.
(4)
استيقظت أمي مذعورةً، ذات ليلة، وهي ترى أبي والدم ينزف من أنفه بغزارة. كانت وسادته منقوعةً برائحة مرضٍ مهلك. تكرر ذلك المشهد أكثر من مرة، وفي إحدى المرات كان الرعاف شديداً فاضطررنا لنقله، بسيارة صديقه الشيخ مالك الحاج جسّاس، إلى مدينة الكوت. وهناك أخبرنا الطبيب أن أبي مصابٌ بضغط الدم العالي، ومنذ تلك اللحظة صار موضوع هجرتنا إلى بغداد جدّياً أكثر من أي وقت مضى.
في بغداد، وفي السنة الأولى تحديداً، تعرّفت على متعة التفوّق في الدراسة وعلى مرارة الفقد أيضاً. كان موت أبي أحد الانكسارات الكبرى في حياتي. لم أشهد ما يضاهيه قسوةً إلّا موت أمي بعد ذلك بسنواتٍ طويلة.
كان قد أُدخِل المستشفى الحكومي في الباب المعظّم، المعروف شعبياً باسم المجيدية، حيث بقي هناك فترة أسبوع تقريباً. وحين كنت أزوره مع أمي، كنت أعجب من سرعة ألفته للناس، صداقة سريعة، مثلاً، قامت بينه وبين مريض مجاور له، يعمل معلماً، وتتكدس على منضدته مجموعة من الكتب والمجلات المصرية كالمصور، وآخر ساعة. وكان الصبيّ، الذي كنْتُه، ينظر إلى أفق آخر تارة، ويصغي إلى بعضٍ من أحاديثهما، أو ينشغل بتصفح بعض المجلات تارة أخرى.
وهكذا علقت في ذاكرته أسماء كانت تلمع بين دخان الكلام الكبير الذي كان يسمعه أحياناً وأغلفة المجلات وبين صفحاتها الملونة: جمال عبد الناصر، طه حسين، عباس محمود العقاد، أمينة السعيد. ويذكر أنه، وربما بتأثيرٍ مما شهد وما سمع، أشترى، عند خروجه مع أمه من المستشفى أول جريدة في حياته، جريدة "البلاد"، وأظنه لم يتجاوز كثيراً قراءة عناوينها الكبيرة ومشاهدة الصور المثيرة للانتباه.
اجتمعنا حول فراش أبي كطيور خائفة، وكانت رائحة الموت تغمر كل شيء: ثيابنا ودفاترنا وجدران بيتنا الطينيّ، حيث كنّا نسكن منطقة الشالجية في إحدى ضواحي بغداد المكتظّة بالسكان القادمين من الجنوب. أخذ الموت يقترب من جسده النحيل شيئاً فشيئاً، وبدا الذبول واضحاً على صوته الذي طالما عُرف بالعمق والقوة. وقبل موته بساعات، أو بدقائق ربما، قال لأمي بضع كلماتٍ لم أدرك مغزاها إلا بعد أن كبرت: أوصاها ألا أترك المدرسة مهما كانت قسوة الظروف التي سنواجهها. ثم انطفأ الكون كله من حولي. كان الموت أكبر من بيتنا الصغير، وفوق قدرته على التحمل. وكان سكان ذلك الحي العمالي البسيط، بعد انتشار الخبر، في منتهى المروءة والتعاطف.
كم أحتاج من الخيال كي أتصوّر حياتي، في هذه اللحظة، بدون أبٍ كأبي. أعني كي أتصوّرها وقد أخذت منحىً مختلفاً تماماً. كان تأثيره عليّ عظيماً رغم رحيله المبكّر. أهديت إليه مجموعتي الشعرية الأولى، وكان محوراً لواحدة من أقرب قصائد تلك المجموعة إلى نفسي: "أبي وزمان المياه". لقد ظل صوته العميق وضوء عينيه المعبّرتين ينتشران، بعد ذلك، في الكثير من قصائدي وكتاباتي وأحاديثي. ووضعني موته، بشكل مفاجئ ربما، أمام تجربةٍ وعرة: اليتم والغربة من جهة، والتعالي على غوايات الشباب وإغراءاتها التي لا تقاوم من جهةٍ أخرى.
(5)
كان لنشأتي في أسرة تعيش على مقربة من الفقر الكريم، وعلى تماسّ كبير مع المثل الروحية، أثر كبير على سلوكي القادم. شيءٌ طالما أثار انتباهي وأنا في غمرة عبثي البريء مع أقراني: لماذا لا يحمل أبي، كما يفعل بعض الفلاحين، سلاحاً؟ لم أره، مثلاً، يتحزّم بخنجر أو مسدس أو بندقية. لماذا لا يدعنا نشتري فرساً أخرى، بدل فرسنا الدبراء؟ فرساً ضامرة، مزهوّة، لا تشكو من هرمٍ، ولا قرحة في الظهر؟
ومع الزمن تسلّل إلى وعيي، أن مَن يدّعي الانتماء إلى أرومة يجلّها الناسُ، أيْ مَن كان مِن "السادة" كما يسميهم القرويون عادة، لا يجد مهابته في حمل السلاح، أو التباهي بما يملك، بل في ما يتحلّى به من سلوك قويم، وكأنَّ السلاح حاجة مَن يقتحم الحواف الخطرة للقيـم، أو يغتصب حقاً لغيره، أو يحتل به مكانة لا يؤهله لها رصيد من محبة الآخرين.
كان للسيد، هالة في قلوب البسطاء. خيطٌ من السحر الغامض، يمتدّ حتى الينابيع الأولى لقداسة الأصول وفاعلية الأساطير. تجعل صاحب هذا السم في منأى عن مكامن الشر أو التهلكة. لا اللص ولا قاطع الطريق، لا الأفعى ولا عقارب الليل، بقادرة على إلحاق الأذى به. وكانت هذه العوائل تميز سطوح بيوتها، غالباً، برايات سوداء رمزاً لهذه الأرومة الضاربة في القدم.
(6)
شكّل موت أبي منعطفاً جذرياً في حياة كاملة، تغييراً يكاد يكون تامّاً لتاريخ من عبث الطفولة واندفاعاتها البريئة. أحسست، بعد موته، كأنني قد هرمتُ فجأة. صبيٌّ يصعد إلى تلال أيامه، ليستعجل كهولة بعيدة، أو حكمة لم يحن أوانها بعد، أو يستبعد حماقاتٍ لا حصر لها. بعد موت والدي هبط عليَّ نسيانٌ مفاجئ لكثير من المباهج التي قد لا ترضيه: لا شيطنات طفولية، ولا مراهقة تحفل بالكثير من الطيش، وهذا ما جسدته قصيدة "قشعريرة" بكثافة:
حينما ماتَ
لم يجدني حزيناً، في جوارِ فراشِهِ
كنتُ شيخاً أحدبَ الظهـرِ، ينحني عـند قـبرٍ
عضّني البردُ فجـأةً، واقْـشَعرّتْ
رئـةُ الأرضِ. هـل غـدا كلّ شيءٍ
مِن يتامى ومن بكاءْ؟
نسِيتْ دفئها يـدِيْ
أم حصىً كانتِ السماءْ؟
وكان زملائي في المدرسة، يعرفون جيداً حرصي على حيازة المركز الأول دائماً، فكانوا يشاكسونني، بطريقة ممعنة في التهتك أحياناً.
حدث ذات مساء أن مرّ عليَّ ثلاثة منهم. كانوا في لحظة من عبثهم المرّ، أو تعبيرهم المشين عن شبق الشباب وضغوطاته. حين خرجت إليهم، وكانوا في سيارة مع واحدة من بنات الليل، تيقّنوا أنني أدركت تماماً ما هم مقبلون على فعله في ذلك المساء، فهتفوا، نكاية بصديقهم الذي ينكب دائماً على دراسته مفرّطاً بهذه المتع الليلية: "ظلّ اقرأ.. المهم تطلع الأوّل على الصفّ!".
وغير بعيد عن هذا المشهد في الدلالة، لكنه بعيد عنه في جغرافية المكان والزمان والنفس ومسار النضج، ما صادفني ذات يوم في المرحلة الجامعية. كنا نقترب من نهاية العام الدراسيّ. تفاصيل هذه المرحلة تملأ نفوسنا بحضورها المدوّي. دعاني زميلٌ لي للمذاكرة، كان مستواه في بعض المقررات ضعيفاً. كان من طلّاب المحافظات، يقيم في الوزيرية، مع صديقين له يدرسان تخصّصات علمية.
في الصباح دخلت امرأة، بدا مِن طرقها على الباب أنها كانت على موعد مسبق مع هؤلاء الشباب الثلاثة. كانت تكبرهم عمراً وحجماً وحاجة إلى تلك اللحظة العابرة، رغم اختلافهم في الدوافع والغايات. بعد دقائق جاءني ذلك الزميل وصديقاه يعرضون عليّ أمراً ظنوه من لوازم الكرم أو حقوق الضيف: أن أكون أول الجالسين إلى تلك الوليمة المقززة. لحظتان تفتقران إلى الانسجام حتى في حدوده الدنيا. إحساس بالضآلة والابتذال، وانتظار للوليمة بلهفة ساحقة. وبين هذين الإحساسين ثمة جسد ينتظر، مدفوعاً، بالحاجة أو القهر، إلى الرضوخ لتلك الشراكة المتدنّية.
ثلاثة شبّان، كل ينتظر دوره بتعطش كبير. يعرّون جسد تلك المرأة من كرامته، ويتعرّون أمامه من ذواتهم، باحثين عن وهْـمٍ ما، ينسيهم واقعاً مزرياً أو حلماً عصياً على التحقق. لم تكن صاحبة الجسد معترضة على ما يتم إعداده لها في تلك اللحظة. وبعد أن رفضتُ الاستجابة لما عرضوه عليّ، أرادتْ هي أن تختتم محاولات الإقناع. امرأة لا تملك إلا جسدها، وإلا الخضوع لتلك اللحظة غير الإنسانية. كانت تذكّرني، وهي تهيّئ جسدها للوافدين عليه بعد لحظات، أن الامتحانات تحتاج إلى صفاءٍ ذهنيٍّ لا بد منه!
(7)
وهكذا ظلّ يرافقني، في الكثير من مراحل حياتي، إحساسٌ يشبه الخوف من الخطأ أو التهوّر، من الابتذال أو حِطّة النفس. قيَم كثيرة كان يحملها ذلك الأب البسيط والواضح، كعراء البراري وهوائها الخالي من الخدوش. وقد ظلّ حضوره قوياً داخل النفس، وكما في قصيدة "يقرأ شيئاً عن غدٍ لم يحِنْ"، كان البطانة الروحية التي تحتضن الكثير من عذابات النفس وما تقترحه اللغة من ملامسة للحياة واندفاعاتها منذ طفولتي وحتى الآن:
يغادرُ الكوخَ، كأنّ الضّحى
يخرجُ من شـقوقِهِ الفارهةْ:
هذا نديمُ الـرّسُلِ الأيتامِ
والآلهةْ..
وقد كاد افتتاني بذلك الأب خصوصاً، وبالعائلة عامّة، أن يكون مبالغاً فيه. أوشك أن يدفعني إلى مثالية تقع خارج الحياة، أو بعيداً عن منطقها الواقعيّ، الذي لا بد من الامتثال له بأقل الخسائر الأخلاقية الممكنة. وطالما أحسست أن حرماناتٍ كثيرةً، كان في الإمكان تجنّبها، أي أنها لم تكن حتمية، غير أن ما ضاعف من سطوتها عليّ عائد ربما إلى انبهار طاغٍ أحياناً بوالدي. كان تذكّري له يمنعني أحياناً من التعامل مع المواقف الحياتية بأريحية ومرونة. ما زلت أتذكر واقعة قد تكون عابرة، لكنها ظلت تؤلمني حتى الآن.
في بداية عملي في وزارة الإعلام، وأنا في دون الخامسة والعشرين من عمري تقريباً، كنت مع أحد المدراء العامين في الوزارة، في طريقنا إلى المطبعة، وكان يكبرني كثيراً في السن. نزل من السيارة وأخرج من صندوقها الخلفيّ إطاراً بحاجة إلى الإصلاح. أخذ يدفع الإطار المثقوب من موقع السيارة وحتى مصلّح الإطارات في زاوية الشارع. كنت أسير إلى جانبه دون أن أمدّ يدي لمساعدته أو أهمّ بذلك. وكلّما أوشكت أن أفعل تقمعني مخيّلةٌ عجيبة تعيد لي صورة والدي وهو يراني متملّقاً للمدير العام، أو أفعل شيئاً لم يكن يرضاه للصبيّ الذي تعلّم على يديه القراءة والكتابة والترفع عما يضعه موضع الشبهات.
فورةٌ من الندم تعصف بي كلما تذكرت هذه الواقعة أو مثيلاتها. عندها أحس، كم كنت مفتقراً إلى الذوق. لم أراعِ موقع هذا الرجل الوظيفيّ، ولا تقدمه في السن. حتى بدا لي أنني، بهذا السلوك، كنت ألحِقُ كثيراً من الأذى بذكرى والدي حين أتصور، مخطئاً، أنني أفعل ما يرضيه.
ومع ذلك كله، فإنني لم أكن ملاكاً، ولم أكن بلا أخطاء، لكنني لم أرتكب هفوة ما دون ندم حقيقي، أو مطاردة ضمير شديد القسوة. من جانب آخر، يذهب بي الظنّ أحياناً إلى أن ذكرى ذلك الأب الحنون والقاسي قد وقفت حائلاً بيني وبين قدر ضروري من المكر، أومن الأخطاء التي لا بدّ منها لإتقان فن الحياة وألاعيبها، فلم أرتكب بعض الهفوات التي قد تعتبر أحياناً من استحقاقات الشباب ولوازمه المغوية. وبذلك لم تكن حصيلتي كبيرة ممّا تستدعيه الحياة من تحوّطٍ ضروريٍّ أو قدْرٍ من الدهاء الذي لا بدّ منه:
قيلَ عنهُ: فتىً يتناسى الإساءةَ.
قيلَ: يُحبُّ تصيُّدَها
قيلَ: مًكتئبٌ، مُنْتَشٍ، شاردٌ،
مثلَ مَن يتأمّلٌ ساقيةً، أو غرابْ
كانَ يذكرُ أصحابَهُ، ثمّ يغفِرُ أخطاءَهم،
ثمّ يضحَكُ، ثمّ يفُكُّ عصافيرَهُ كلَّها
في الضّبابْ...
بطاقة
شاعر وناقد وأكاديمي عراقي من مواليد عام 1945 قرب مدينة الكوت. تخرّج في قسم اللغة العربية بـ"الجامعة المستنصرية" في بغداد عام 1973، وحصل على درجة الدكتوراه في النقد والأدب الحديث من "جامعة إكستر" في بريطانيا عام 1983. عمل أستاذاً في العديد من الجامعات العربية.
صدرت مجموعته الشعرية الأولى، "لا شيء يحدث، لا أحد يجيء"، عام 1973، وأتبعها بأكثر من عشر مجموعات أُخرى، من بينها: "شجر العائلة" (1979)، و"فاكهة الماضي" (1985)، و"ممالك ضائعة" (1999)، و"سيّد الوحشتين" (2006)، و"ذاهـبٌ لاصطياد الندى" (2010)، و"طائر يتعثّر بالضوء" (2018). كما صدرت أعماله الشعرية الكاملة في أكثر من طبعة.
تناول في أعماله النقدية مواضيع عدّة، مثل خصائص القصيدة الحديثة، ونظرية النصّ، ومسألة تلقّي الشعر، إضافة إلى علاقة النصّ بالآخر. من آخر أعماله النقدية: "من نص الأسطورة إلى أسطورة النص" (2017)، و"الحلم والوعي والقصيدة: مقالات في الشعر وما يُجاوره" (2018)، و"المعنى المراوغ: قراءات في شعرية النص" (2020).
* فصل من كتاب "إلى أين.. أيتها القصيدة؟ سيرة ذاتية" الذي يصدر هذه الأيام عن "الآن ناشرون"