تشبه قراءة أعمال خورخي لويس بورخيس، لأوّل مرّة، اكتشاف حرف جديد في الأبجدية، أو ملاحظة علامة جديدة على السلّم الموسيقي. ولعل بورخيس واحد من الكتّاب القلائل الذين حقّقوا شهرةً كبيرةً في العقود التي تلت وفاته، إلى درجة أنّه اعتُبر واحداً من أهمّ كتّاب القرن العشرين.
فما سبب هذه الأهمية والشهرة، وما هي "الثورة" التي أحدثها بورخيس حتى ينال هذه الأهمية؟ عن هذين السؤالين وغيرهما، يجيب الكاتب والباحث الإسباني غونزالو إسكاربا في المحاضرة التي أقيمت صباح اليوم، بمدريد، بعنوان "أسرار بورخيس"، والتي تناول فيها سيرة الكاتب والشاعر الأرجنتيني (1899 - 1986)، وجوانب من مسيرته السردية والشعرية.
استطاع، بورخيس، كما يرى غونزالو، أن يؤسّس لسردية جديدة في القارة اللاتينية، حيث استخدم المتاهات والمرايا وألعاب الشطرنج والقصص البوليسية، فخلق بذلك بانوراما فكرية معقّدة لم تكن موجودة في القارّة، وأسّس لذلك بلغة سحرية ودقيقة، وبعبارات ومفردات بسيطة، لكنها فتحت في خيال القارئ ممرّات متشعّبة غير محدودة.
إضافة إلى هذا التجديد، كان بورخيس، منذ انطلاقته الأدبية، منسجماً مع التقاليد والملاحم الكلاسيكية للعديد من الثقافات، ويعود ذلك، تبعاً للباحث الإسباني المختص في أعماله، إلى نشأته الثقافية، فمنذ صغره ورث عن أبيه حبّ القراءة ومكتبة ضخمة ومتنوعة، مثلما ورث عنه نظراً سيئاً سيتركه كفيفاً في سن الخامسة والخمسين.
يتابع غونزالو أنَّ عظمة بورخيس الأدبية تكمن في أنه خلق قارّة أدبية جديدة بين أميركا الشمالية والجنوبية، وبين أوروبا وأميركا، وبين العوالم القديمة والحداثة، وهذا ما جعل منه "كاتباً لا يموت".
إضافة إلى ذلك، وفي تحليل لبعض نصوص بورخيس، لا سيّما في كتابه "الألف"، يقول الباحث الإسباني: "يجب ألّا نستغرب إذا قلنا إن الإنترنت، هذا الشيء الذي يعيش فيه الزمان والمكان في آن واحدٍ، قد اخترعه بورخيس"، في إشارة إلى المكتبة التي حلم بها وكتب عنها، والتي يمكن أن يوجد فيها كل شيء: المرئي واللامرئي، العالم وما وراء العالم.
وخلص الكاتب الإسباني في محاضرته إلى أن بورخيس لا يزال قارة مجهولة، وإنّنا اليوم بالعودة إلى أعماله سنكتشف موهبة فريدة، وستزول من أمام أعيننا الكثير من الشكوك، كما أنه سيفتح لنا أفاقاً جديدةً للمخيلة وللعقل.