أرشيمبولدو.. فنّان معاصر من القرن السادس عشر

28 ابريل 2022
زائرة أمام سلسلة "الفصول الأربعة" لـ أرشيمبولدو، خلال معرض بلندن، تشرين الأول 2013 (Getty)
+ الخط -

الصورة مألوفة، لا الاسم. إذا قلنا أرشيمبولدو أمام أحدهم، غالباً لن يحرّك الاسمُ فيه شيئاً. أمّا إذا وصفنا له لوحاتٍ مركّبة من فاكهة وسنابل يابسة وخضروات، من حيوانات وجذوع أشجار وأوراق نباتات، من شمعداناتٍ وجمْرٍ وكتب، جُمعت فوقَ وجنبَ بعضها لترسم، في المحصّلة، بورتريهاتٍ بملامح، فقد يعرف المرء حينها عمّا نتحدّث. سيعني له المشهدُ شيئاً، من دون أن يستطيع، رغم ذلك، قولَ شيءٍ كافٍ حول هذا التشكيلي الإيطالي. جهلٌ شِبه عامٍّ به وبتجربته ينطبق، كما يبدو، حتى على كثير من الفنّانين، ليس عندنا فحسب، بل أيضاً في أوروبا.

يبني المخرج الفرنسي الإيطالي، بُنوا فيليتشي، فيلمه الوثائقيّ "أرشيمبولدو: بورتريه فنّانٍ جَسور" (يُعرَض حالياً على تلفزيون وموقع "آرته" الفرنسي الألماني)، انطلاقاً من هذه المفارقة. بل يمكن القول إن الخيط الناظم لفيلمه هو مُحاولة فهم هذه المفارقة: كيف يمكن لفنّانٍ أثّر في أجيال من التشكيليين الأوروبيين، عبر عدّة قرون، أن يكون شبه منسيّ وشبه مجهول؟ الإجابة على هذا السؤال تكاد تكون واحدةً لدى نقّاد الفنّ ومؤرّخيه، وكذلك القيّمين الفنّيين، الذين يحضرون في الفيلم. جميعهم يعتقد أن أرشيمبولدو كان، بمعنى ما، ضحيّة جسارته، وغرابة عوالمه، واختلافه إلى حدّ كبير عن مجايليه من فنّاني القرن السادس عشر. فلوحاته، المبنية من تركيبات غريبة، وربما مضحكة، بدت لدى نقّاد زمانه أقرب إلى السخرية والتسلية منها إلى عملٍ جدّي يستحقّ التوقّف عنده.

يؤرّخ نقّادٌ لبدايات التكعيبية مع بعض لوحات أرشيمبولدو

تجاهلٌ متكرّر سيُدخل الفنّان الإيطالي في قرون من الغياب، قبل أن يعود إلى الأضواء في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، بالتزامن مع ظهور عدد من مدارس الفن الحديث. عودةٌ لم تقدّمه كفنّان "قديم"، كلاسيكي، ينتمي إلى عصر مضى، بل كتشكيليّ معاصِر. هذا على الأقل ما اعتقده السرياليون ــ مثل سلفادور دالي، وماكس إرنست، ومارسيل دوشامب ــ الذين رأوا فيه تجربةً طليعية سعوا إلى مُحاكاتها. كما أن عدداً من النقّاد يرى أنه يمكن التأريخ لبدايات التكعيبية مع بعض لوحات أرشيمبولدو، ولا سيّما تلك التي تحمل اسمَ "المكتبيّ" (أو أمين المكتبة)، والتي يخرج فيها عن التكوينات والأبعاد التقليدية التي كان يعتمدها رسّاموا زمانه. كلّ هذا يدفع مؤرّخة الفن سيلفي فيرينو ـ باغدين إلى القول، أمام عدسة بُنوا فيليتشي، إنّ شخصاً لا يعرف هويّة التشكيلي الذي رسم لوحةً مثل "المكتبيّ"، قد يعتقد أنها رُسمت خلال القرن الماضي، لا قبل أكثر من أربعة قرون.

يتنقّل الفيلم بين الاستقبال الحديث والمعاصر لأعمال أرشيمبولدو، وبين سيرته، وهو المولود منتصف القرن السادس عشر، في ميلانو، التي كانت حينها من أغنى مدن البسيطة. ولعلّ الأبرز في هذا السياق هو تأثُّره، في شبابه، بأعمال ليوناردو دي فينشي، الذي كان قد تُوفّي قبل عقدين من ولادة أرشيمبولدو، والذي عمل زمناً في ميلانو وترك فيها العديد من دراساته واسكتشاته التي كان يرسم فيها تضاريسَ ووجوهاً وأجساداً بتقاسيم وأبعاد غير طبيعية، قريبة من الكاريكاتير. آثارٌ سيلتقط أرشيمبولدو منها، كما يخبرنا الفيلم، بذرةَ رؤيته الفنّية، الساخرة، من دون أن يعني ذلك أن مصيره سيشابه مصير دي فينشي في الشهرة والاعتراف.

المساهمون