مدينةٌ أخيرَة
ربما كانَت عمليَّة الخروجِ هيَ
التي تضايقني. أنَّهُ سيكونُ عليك أنت أو أنا
أو شخصٌ ما نَعرِفُه، النُّهوض،
لابسِينَ فقط دِفْءَ ذِكرى
ثِيَابِنا، لِنَجِدَ فتحة مُهَوّاةً
في الشارعِ المُدَخَّنِ بالسَّيارات. يقولونَ
إنَّه من المُمكِن لمَن يرحَلونَ سريعاً
أو مَن يولدون بروحٍ واحدةٍ فقط
أن يَنسَلُّوا إلى الخارجِ بكرامةٍ، من الصفِّ الخلفيّ
لقاعةِ أوبِّرا، وأن يَدخُلوا عربةَ أُجرَةٍ سوداءَ
وثيرةَ المقاعد، شَبابيكُها المُعتِمةُ تَغمُرها
أضواءٌ مائيَّة. ولكنْ ماذا عن
البقيَّةِ – الملايينِ العُراةِ
المُجبَرين على النّهوضِ والمغادرةِ بينما السِّتارة
لا تزالُ مرفوعةً، وصوتُ أَحدهِم
لا يزالُ لابِثَاً في الهواء. هل يصطَفُّون
واحداً واحداً في الشارع، تاركينِ وراءَهم
زوجَ قفّازاتٍ أو كأسَ نبيذٍ
نِصفَ ملموس، ولا ينتظرون وصول أحدٍ
لكي يدفعَ الأُجرةَ عنهم؟ ولكن من قالَ
إنَّنا، أنا وأنت، المَلهوَّينِ باللَّغو
مع أَحَدهِمْ أو إحداهُنّ
على الرصيف الأخير، لن نتمكَّنَ من
إيجاد دربٍ خاصٍّ بنا، وتوصيلة.
■ ■ ■
بريشِن والمنزلُ المحترق
ما عُدتُ أَسمَعُ موسيقاك
بل ظِلَّها فقَط، مثلَ
ذِكرى بِلا دَمْ. مثلما يحصلُ
عندما تَندلِعُ نارٌ في منزلٍ، فتَنسَلُّ
شُعلةٌ داخلَ عُلَبِ الآلات الموسيقية،
وربَّما لأنَّها تَجِدُها مُستعمَلةً
ومُغَذِّيَةً لشُعلةٍ، تأكُلُ كِلتا
الأُغنيِتَين الأخيرةِ والأولى، وأيضاً
بَصَماتِك العشرةَ أَلفْ. مَن
سَيَدخُل المنزل الآن، لكي يلتَقِط
من الرمادِ مفتاحاً واحداً مثل سنٍّ
مَحروقة؟ هناكَ، أقَلُّ الأَمر، تلك الرسائلُ والحروف.
ارْوِ عليَّ تلك القصة مجدّداً، تلك التي
تبدأُ في اللَّيلِ الأوكرانيّ.
■ ■ ■
بعدَ انتحار
آخِذَاً معكَ ذكرى التُّفاحاتِ البريَّة.
ذكرى لندن وضباب المقبرة. وأنتَ
في إحدى زوايا الغرفةِ، تُطِلُّ من
المَشربيَّةِ، والضوءُ كامِلُ
الزُّرقةِ تقريباً، يغمُر وجهك. هَل سَمِعتَهُ
عندما أتَى، ذاك النَّفَسُ الأثْمَنُ
لِكَونِه الأخير؟ قبلَ أن يَنكَبِسَ
خارجاً من فتحة
المُفتاح. خارجاً إلى البستان،
مثل لَحنِ نايٍ يُقَلِّبُ
جيفةَ نحلة؟ هل كان مريعاً
في نهاية المطاف؟ أو كما يُقال: كُلُّ الرُّمانات
وقباطِنَة العَبَّاراتِ، والقمَرُ الحازِمُ الخالي من الدَمْ
كُلُّ يومٍ في البُحيرة تحت الأرض،
حياةٌ آخِرَةٌ في ظُلمَةِ الدَّرَنات.
هل تُلقي النُّكات الآن
على طريقك الحزينِ، الطويل إلى جبل كاتاهدين؟
ولكنْ ربما وُلِدتَ من جديدٍ الآن،
وسَحَبَتكَ يَدٌ بِقفَّازٍ
طازجاً ومليئاً بالأنسجة مثل دُرَّاقةٍ
قُضِمَت للتو، وضَربَتكَ على قفاكَ الزَّهريَّةِ
بقوةٍ، بينما كلُّ الهواءِ والموتِ
يَجبُلانِ منكَ طفلاً. ماذا بقيَ لأفعلَهُ
غير أنْ أشكُرَك. شكراً لكَ إلى الأبد
لأنَّك منَحْتَني إيَّاي لَكْ. شُكراً لكَ لأنَّك مُتَّ على الموعد.
■ ■ ■
الذاكِرةُ دَمٌ ذَوَّاب
ما زِلتُ العجوزَ صاحبَ أُرغُنِ الشَّارعِ والهِرَّة، أُديرُ ذات الكَرنَكِ وأرتَجي ضوء القمَر. ما أذكُره: دخانُ المنازلِ على ضفَّةِ النهر. عاصفَةٌ بِسُكون. المعبَدُ مُهَدَّماً، وقد ولجَهُ القُربان. أَحبَبْتَ عِظامي لأنها كانت بيضاء. في العَماءِ المُحتَشِد ضَمَّدْتَ جسَدي، وبفِعلِكَ ذلك جعَلتَهُ جسَدي. لا أستطيعُ تَذَكُّرَ النَّغمةِ التي تُعالِجُ الرؤيا أو تُسَبِّبُها. أو تلك التي تستَحضِرُ غيمةَ نَحلٍ من الصخر، أو تُخَبّي هَيأتَكَ وراء شُعلة. هِيَ كُلُّ قيثارةٍ وَجدْتُها في المِزراب. كُلُّ اسمٍ على شفا الزَّوال.
■ ■ ■
مُستَقطِنون
بامتِنَاعِهما عن فِعل شيءٍ
يَبنيانِ غُرفةً للمطَر.
في نيسان تَدخُل عصافير الدُّوري. وفي تشرينَ الأول،
تَجرفُ الأوراقَ إلى الحائطِ
لكي تمنحَ الصَّمتَ شيئاً يَفعَله.
أحياناً يَسمعُ أَحدُهما
موسيقى تأتي من وراء الباب
ولكن عند التَّحري، لا يجدانِ إلّا
سماء الليل الباردة. عندما ينامانِ
تَصْدُر ضجَّةٌ، مثل انبساطِ الأيدي
من الصخر: جَمجَمةُ أَرجُلٍ حافية،
أو خَشخَشةٌ، كأنَّ شحروراً يَنكُز
ثقباً خَفيَّاً. بعدَ عشر سنوات
يصبحُ مِلْكاً لهُما – كُلُّه. بِالحدائقِ
والمِغْسَلات. بالنافذةِ المُحطَّمةِ
في الجدارِ المَهدومِ، المُطِلِّ
على نافذةٍ أُخرى. العاشقان المَيِّتان
مارو ورينالْد، لا يزالان يتَسكَّعان على
السلالم، ويرفعانِ ذات إبريقِ
النبيذِ الشفّاف. كُلُّه، إلّا غرفة
المطَر، بِسَقفها نصفِ المتآكلِ
بفعلِ ضوء القمرِ المعدنيِّ البرَّاق.
■ ■ ■
صَدْع
نائِمةً، تَتَخَيَّلُهُ يصطادُ السَّمَك على شِعبَةِ ماءٍ أبيض لها شكلُ قَرنْ، ووجههُ مُتَيَبِّسٌ من المِلحِ بحيثُ لا يمكِنُ تمييزهُ عن الأوجُهِ المحفورَةِ على زورَقِه. إنَّهُ يومٌ يتَذكَّرُه، لأنهُ اصطادَ أَنكليسَةً عليها نجمةٌ حمراءُ فوق عَينِها، مثل وَحمَةِ أُختهِ إيفغينيا. تلكَ الليلةَ حَلُمَ بأنَّهُ سحبَ خيطاً لنصفِ ساعةٍ قبل أن ينتبِهَ إلى أنَّ الخيطَ شعرَة. واستمرَّ بالسَّحبِ إلى أن اغْمَقَّت الشَّعرَةُ وأدركَ أنَّ هناكَ دماً على يديه. وعندما عادَ إلى المنزل، عَلِمَ أنَّ زوجتَه فَقدَتْ كُلَّ شَعرها. أحياناً تَصدُف اليدُ صمتاً لا تُدرِكُه على الفور، مثل صوتِ زورق مربوطٍ بحَبلَين في الليل. بإبهامهِ، أخذَ يَتسَلَّقُ الخطَّ الأحمرَ حتى فروَةِ رأسِها.
■ ■ ■
بإضمار
يشتَعِلُ مَصدرُ ضوءٍ آخر
من مكانٍ ما في الغرفة، ربما
في أسفلِ عُنقك
والعَقصاتُ السَّوداءُ التي تَرمِشُ
تَعكِسُ أضواءً أُخرى: غروباً
مثل راتِنْجاتٍ تحتَرقْ، مثل ريشاتٍ
تضيءُ على الشَّعراتِ الخارجيَّة. ليسَ
هوَ، أو أَحَدٌ آخر، أو ما وراءَ
البَهو البَرَّاقِ لمحادَثَتِنا،
إنَّما مثل نافِذَةٍ فُتِحَت
في قاعِ كأسِكْ، مُضاءَةً
وتُضيءُ، غُرفَةً مَخْفِيَّةً، نَجمَةً مَخْفِيَّة.
■ ■ ■
ظُلمَةٌ بعاطِفيَّة
هل كُلُّ ثَنْيَةٍ في الأرضِ
لغزٌ؟ ما أَزرعُهُ يعيدُ توكيدَ
خدعَةٍ قديمةٍ، الدُّبَالُ بالإضافةِ إلى الاشتياقِ
صيغةٌ للعَيشِ في عُزلة
من دونِ مقاوَمة. من دونِ مَغفِرَةٍ،
أو دُعاءٍ للجَسَدِ لِكَيْ يتَفتَّحَ
بأيِّ سُرعةٍ غير سُرعَتِه الخاصَّة.
من أيضاً سوفَ يُشْتِي في عينِ
غُراب؟ فِراشُ العِصْيِ
والجذوع، وغُفرانٌ مثلَ مُسطَّحٍ
مائيٍّ لا أعرفُ اسمَه،
أو الاسمَ الذي لَبِستهُ عندما غَرِقْتُ
حتّى القاع، وأقواسُ أصابعي
لُطَخٌ طبشوريَّةٌ تزدادُ عتمةً مع كُلِّ نَبضة.
من أيضاً سوف يَدخلُ وأنا في طريقي إلى
الجسدِ الآخرِ، رؤيا حَقل أرُزٍّ
وماءٍ أسودَ وبَرقٍ تَوَّاقٍ
للغيوم. نازِحَاً. لا أعني بقولياتٍ
أو الطريقة التي تخيَّلَ بها فيثاغورس الرّوحَ
مطويَّةً على نفسها مثل مكتَبة
في حبلِ البروتينِ السِرِّي داخلَ
الجزءِ المُجعَّد لحَبَّةِ فاصولياء. أعرفُ أنَّنا نصلحُ للأكل
وأنَّنا نهمسُ لبعضنا ونحن نأكُلُ
مَنْ لا نُسَمِّيهِم. إنَّما أعني
الحقولَ المتكرِّرَة حيث تُعادُ
أدوارُ الصائدِ والفريسَةِ إلى ما لا نهاية. كَمْ مَرَّةً
كنتُ الغزالَ، وسَرى تيَّاري الكهربيّ الرَّاجِع
في الفَروةِ التَّحتيَّةِ ومِهَادِ التُّربة
المُستَمِرَّةِ حتى اللحظةَ على شاشةِ شخصٍ ما.
إذا كانَت ذاكِرَتي مُستَعارةً من الدُّبالِ،
فعندَما يحينُ دوري للعَودةِ إلى الأرضِ،
ادفِنوني في فَدَّانٍ من الريح.
بطاقة
Brian Sneeden شاعرٌ أميركيّ تستحضرُ قصائده نسائم سييرّا نيفادا، ومراكز تجاريةٍ منبوذة بنفس القدر من الحساسية والانتباه. لغتُه مُجرَّدة وثرية، أبياتهُ يتداخل فيها المعقول واللامعقول، والحاضِرُ الذي تصوِّره أزليٌّ ومليءٌ بالألغاز. القصائدُ المنشورة هنا مختاراتٌ من مجموعته الأولى، "مدينةٌ أخيرة" (Last City)، التي نُشرت عام 2018، ومجموعته الثانية، "عامُ المتاهة" (The Year of the Labyrinth)، التي ستصدرُ قريباً. حصل برايَن سنيدِن على دكتوراة في الترجمة وهو أستاذ جامعي ومترجم للشعر اليوناني المعاصر إلى الإنكليزية.
* ترجمة عن الإنكليزية: أنس طريف