أبو نائل.. وداعاً

04 نوفمبر 2023
عمليات بحث وإنقاذ بعد غارة إسرائيلية على مخيم المغازي في غزة أمس (Getty)
+ الخط -

في اليوم الرابع لبدء المجزرة، دَقَّ على النافذة عُنصرا أمنٍ بلباسهما الأزرق، ترافقهما شابّة بلباس برتقالي، تتكلّم الإسبانية ويتدلّى مسدّسٌ على خصْرها.

طلبوا فتح الباب، في الطابق العلوي، ففتحتُ لهم النافذة على وسعها، رافضاً مشقّة الصعود على درج لولبي من الخشب، متحجّجاً بصحّة لا تقوى، وقلت: بإمكانكم الدخول مِن هنا والتفتيش. نظروا في عيون بعضهم بعضا، وسألوني أسئلة بلا طعْم، ثم غادروا.

عادوا في اليوم الثامن، وتكرّر الحوار نفسه والمشهد نفسه. وليلة 22 تشرين الأوّل/ أكتوبر، عادوا، ثالثةً، فصرخت في وجوههم، وصفقت الضلفة، متسائلاً عمّا يريدون (وبإمكانهم تفتيش البيت في كلّ وقت)، إلّا الإزعاج؟

تركوني وذهبوا. لكنّي أعرف أنّ جميع الفلسطينيين في أنتويرب (وهم بعشرات الألوف، والسواد الأعظم منهم لاجئون من قطاع غزة)، تحت المراقبة القصوى. إنّ الأمن يأتي فقط ليذكّرك بهذه الرسالة.

تحسّست قلبي الحادس بالاحتمال الأخير، ولم تُطعني عيناي

عشرات من الزملاء، حدثَ معهم الشيء نفسُه. وبعضهم ممن ثَكَلَ أعزّة من الدرجة الأُولى، كرّروا معه الإزعاجَ نفسه، غير مرّة. أمّا أحد الثاكلين، فهدّد وتوعّد، والشرطة ما زالت تبحث عنه.

أبو نائل، من رفاق المصحّة النفسية بـ"سينت فرانسيسكو كلينك" و"سيبا"، طلبوا منه مراجعة طبيبه، كي "يُعالج بما يلزم"، فلا يعود يعي نفسه ولا أين هو في هذا العالم.

أبو نائل فقَدَ 24 فرداً من العائلة في بلدة بيت لاهيا: زوجته وبناته الأربع وولديه نائل ووائل، مع أمّه وأبيه وإخوته الاثنين بعائلتيهما، في ضربة واحدة. وقد علمَ بالخبر، قبل أن يقطعوا النت عن القطاع.

إنّ عناصر الأمن تراقب مسكنه، مداورة وصراحة، ولمّا رفض حكاية "البيسخاتِر"، جاء ممرّضون أشدّاء وأخذوه مُكبّل اليدين، في عربة الإسعاف، ورموه في أقرب مصحّة.

صديقنا يحيى زاره، بعد لأيّ، وقال إنهم سوف يقتلونه، وهذا ذقني .. فما معنى أن "تُبَلْبِع" 19 حبة دواء كل يوم؟

هل صحّة الرّجل الخمسينيّ، صاحب السكّر والضغط والكوليسترول، تحتمل؟ قال: إنْ لم يمت بعد مُدّة، سيحقنونه بـ"إبرة اللاجئين" ـ مفعولُها خمس سنوات ـ  ليُمسي حينها جثّةً تتنفّس، لا كائناً طبيعياً يستقبلُ ويبثّ ردودَ فعل، اسمه: أبو نائل.

لم تمض أيام على هذا الكلام، وأمس تلقّينا الخبر اليحيويّ: أبو نائل نالْ "إفراج"! يحيى قال إنه على الأغلب، إمّا أُصيب بسكتة دماغ أو نوبة قلب، أو انتحر. وأنا تحسّست قلبي الحادس بالاحتمال الأخير، ولم تُطعني عيناي.

شهور عشرة أمضيناها في المصحّتين مع يحيى وأبو نائل والشاب محمد فاء، ومحمد ابني. كانت غالبية شاغلي المصحّتين من لاجئي القطاع. وكانت لنا ذكريات، وقصص وحكايا. يحيى من قرى رام الله (الشيف السابق في الحجاز وقد طرده وكيلُهُ بعد سرقة "شقا العمر")، كان كلّ أسبوعين يطبخ لنا ما نشتاق، وأنا معه بالتزامن، أصنع للجميع من أفغان وسوريين وعراقيين ويمنيين أجمل "التورتات" الكبيرة بالحليب المكثّف.. فهذه آخر مهنة لي: حلوانيّاً أمضى 12 سنة يعمل في يافا ومحيطها الجنوبيّ على شاطئ البحر.

محمد فاء، ذلك الشاب الهادئ، النحيف، المتدين، الذي لا يكلّمك إلّا إذا كلّمته، بلَعَ شريط حبوب، بعد تلكؤ إدارة اللجوء في ملفّه، طويلاً، ودفنّاه في مقبرة بسينت نيكلاس، دبّرها لنا إخوةٌ مغاربة، بالمجّان.

واليوم، ها هو أبو نائل يلحقه، بعد عام ونصف، وعلى الأغلب سيحرقون الجثمان.

اللهم صبراً في مرحلة عضّ الأصابع، يا الله.


* شاعر فلسطيني مقيم في بلجيكا

نصوص
التحديثات الحية
المساهمون