في السابع والعشرين من تموز/ يوليو الفائت، مرّت الذكرى الخامسة والثمانون لميلاد آرسين ديديتش Arsen Dedić، الموسيقار اليوغوسلافي الكرواتي والمغنّي، والشاعر، والمترجم، والرسام (1938 - 2015).
"مررتُ من شارعٍ بلا أمل، بمحيطاتٍ وصحارى، لِأَختبئ الليلة: جسدك منزلي"، بهذه الكلمات عبّر ديديتش، المغنّي والشاعر، الذي اعتقدَ في البداية أنَّ الكتابة ليست نداءه أو أداة التعبير التي تناسبه، بهذه الكلمات عبّر عن جوهر الحياة ومعنى العيش. في أغنيته "جسدك منزلي"، ماثلَ ديديتش بين الجسد والمعبد، أو الملجأ، وصرّح بأهمية الآخر، وبكوننا كل شيء بالنسبة إلى بعضنا البعض، وأنّ الأمل الوحيد في نهاية المطاف يكمن في الحب، أو في "النار الصامتة لجسدك".
عُرِف ديديتش بصوتِه الرخيم، وتعابيره الموسيقية الأصيلة والمتنوّعة: من الأغنية الشرق متوسطيّة، إلى الموسيقى الرعوية وموسيقى الروك، إلى الشانصون الإيطالي والفرنسي؛ ولكن أكثر ما ميّزه هو شعره وتعابيره الغنائية، التي كانت أداته الفنية الرئيسية، والتي تطرّق من خلالها إلى قضايا الوجود البشري: الحياة، الموت، الشباب، الزوال.
"عندما جُبنا العالم، مثل بذارٍ مرميّة،
قُلنا لأنفسنا، سينقضي هذا،
ولم نعرف أننا على سفينة ضائعة.
صرخنا: 'يابسة!' ولكننا كنا ننظر إلى الماء".
"الخوف لا يمكنه أن يكون قاعدة للحياة، بل الشجاعة"، قالَ المغني والشاعر الذي ألِفَ القمع والرقابة، مضيفاً "إذا كنت خائفاً، فلن تعيش، بل ستكون خادماً".
أسّس في أغانيه لمسار جديد للأغنية البلقانية
اشتهرت حقبة الخمسينيات وحتى السبعينيات من القرن الماضي بالقمع السياسي في يوغوسلافيا، وتسبّب الربيع الكرواتي في 1971 باعتقال الكثير من الفنانين والفنانات الشباب وزجّهم في السجن. كان على المرء أن يختار في كل وقت بين العقيدة الحزبية أو البدعة، وكانت البدعة أي شيء ينحرف عن أيديولوجيا الحزب الحاكم، بما في ذلك الشِّعر.
حتّى ديديتش الشاب، اسُتدعي إلى لجنة وفُصل من وظيفته كمتعاون خارجي ودائم في إذاعة "زغرب" إثر نشره أغنيتَين عام 1958 لهما رمزية دينية، هما "إلى ربّ الصليب" و"القديس نقولا". تأثّر المغني بالحادثة، فقد كان يعتبر كتابة الأغنية من محطّات رحلته الإبداعية، لكنّه مع ذلك توقّف عن الكتابة واتّجه إلى التلحين والتوزيع الموسيقي. ولكن بعد عام واحدٍ فقط، عندما فازت كلمات الأغنية التي كتبها لمقطوعة ماريو بوغليوني، والتي حملت عنوان "مورناريف"، بجائزة مهرجان "زغرب"، عاود كتابة الأغاني لنفسه وتلحينها، وإقامة الحفلات الموسيقية.
تمثّل مقطوعتاه "أنشودة موديراتو" و"بيت على البحر" الّلتان تعودان إلى عام 1964، نقطة انطلاق لإرث ديديتش الموسيقي الغني، ووجهة جديدة للأغنية البلقانية عموماً. وبتأليفه أغاني الشانصون وتأديتها على خشبات المسارح المحليّة، أصبح المغني الكرواتي ممثّلاً لهذا النوع من الموسيقى، الذي يمزج بين أداتين إبداعيَتين امتلكهما هما الموسيقى والشِّعر. تلى ذلك صدور ألبومه الأول "رجلٌ مثلي" عام 1970، الذي حاز عدّة جوائز.
في عام 1971، نشر ديديتش، الذي صار شخصيّة مشهورة في بلده، أوّل مجموعة شعرية له بعنوان "سفينة في زجاجة". أشاد النقاد بأصالة المجموعة، وصراحتها وفكاهتها الرفيعة. تعبّر المجموعة عن ازدواجية لم تفارق الشاعر والمغني قط، وهي الشعور الدائم بالغياب والأسى من الزوال وعدم الرجوع. خلال عروضه الغنائية، كما في نصوصه على صفحات الكتب، لبس الشاعر قناع مغنّي الشانصون الذي يحنّ إلى الماضي الأزلي، ويرثي انتماءه إلى شيء لم يعد موجوداً الآن.
في "سفينة في زجاجة"، تتلاشى يوغوسلافيا ديديتش، وتتلاشى بإثرها أوروبا التي عرف. قصائده، خصوصاً السردية منها، تتّصف ببحث حثيث وحاجة ناشطة تقريباً إلى تصوير العالم والبشرية، كعائلة واحدة ممتدّة، وتحويلها إلى أغنية توحّدنا سويّة. مع حلول عام 1988، صدرت الطبعة الثامنة من الكتاب، وباعت أكثر من 80 ألف نسخة. كذلك لحّن قصائد من تأليف ميورسلاف كرليجا، وتين أويفيتش، ودوبريشا تسيزاريتش، وبيرتا غولوب؛ بالإضافة إلى مغنّين ومغنيات من شتّى أنحاء العالم، مثل جينو باولي، وسيرجيو إندريغ، وجاك بريل، وليونارد كوهين.
رحل ديديتش عن عالمنا في 17 آب 2015، في زغرب، إثر مضاعفات عملية جراحية أجُريت لفخذه، واعتبره كثيرون أهمّ موسيقار وكاتب أغنية في تاريخ كرواتيا الحديث. خلال مسيرته الفنية الحافلة التي امتدت أكثر من 50 عاماً، حصد العديد من الجوائز لتلحينه موسيقى الأفلام، أو المسرحيات، أو كتابة الأغاني – مثل جائزة "جاك بريل" و"بريميو تينكو"، والعديد من جوائز "بورين"، من بينها جائزة "بورين لإنجاز مدى الحياة" عام 1999، و"إكليل غوران" للإنجاز الشعري، وغيرها الكثير.
أصدر أكثر من 40 ألبوماً، ولحّن موسيقى أكثر من 100 عمل سينمائي لأفلام وثائقية وسردية ورسوم متحركة ومسلسلات تلفزيونية، إضافة إلى ما يقارب 200 مسرحية. كذلك ألّف أكثر من 30 كتاباً، منها 20 مجموعة شعرية. لكي يصف المرء إرثه الإبداعي، لا يسعه إلّا أن يستخدم المقولة البلقانية، والتي هي أيضاً عنوان لإحدى أغانيه: "من يستطيع سداد ثمن كل ذلك"!
*كاتب من البلقان مقيم في الولايات المتحدة