يحتفل العالم العربي، اليوم الإثنين، الرابع من نيسان/ أبريل، بيوم المخطوط العربي في دورته العاشرة، وهي مناسبة سنوية مقرّرة منذ عام 2013، يقيمها "معهد المخطوطات العربية"، التابع لـ"المنظّمة العربية للتربية والثقافة والعلوم" (الألكسو).
واستبقت "مكتبة قطر الوطنية" الاحتفال بهذه المناسبة، بيومٍ بحثيّ أُقيم على عدّة منصّات إلكترونية الأربعاء الماضي. وفي اليوم الموالي كان "معهد المخطوطات العربية" قد افتَتح رسمياً فعاليات اليوم، التي جاءت تحت عنوان "إرثنا المخطوط في زمن العولمة"، والتي تستمرّ حتى السابع والعشرين من الشهر الجاري.
ووفق ما قاله مدير المعهد، مراد الريفي، في كلمة وجّهها إلى فعالية "مكتبة قطر الوطنية"، فإن هذا التراث "ليس ورقاً عفا عليه الزمن، بل مخزون ثقافي لم نكتشف منه إلّا النزر القليل. وإذ لفتَ إلى مشاركة أكثر من 30 هيئة في "يوم المخطوط العربي"، عبر 56 فعالية تُنَظَّم في 14 دولة عربية، تحدّث ريفي عن مصطلح "العولمة" في دورة هذا العام، قائلاً: "نحن لن ننكفئ على تراثنا دون الانتباه لما يعتمل حولنا من متغيّرات بنيوية جذرية، في ما يتعلّق بسيرورة نقل المعارف على شبكة الإنترنت". كما أشار إلى زيادة فاعلية الرقمنة والتعرّف الذكيّ على الحرف العربي والبرمجيات والخوارزميات التي تسعف في الدخول إلى عمق هذا التراث واستثماره الاستثمار الحسَن.
جغرافيا واسعة للمخطوطات
مع حلول شهر رمضان، أطلقت "مكتبة قطر" الوطنية هذا اليوم البحثي، وهي ــ كما نعلم ــ تحتفظ بكنزٍ يناهز أربعة آلاف مخطوطة، ربعها تقريباً من المصاحف. يوم كامل من المحاضرات حول تقاليد مخطوطات المصاحف، قَدّمت فيه المكتبة عالماً غير مطروق أو قليل الدرس، من أفريقيا حتى الصين وجنوبيّ شرقيّ آسيا.
كيف كانت تُصنع هذه المصاحف، وموادّها الخام، وخطوطها، وفنون التزيين وما إلى ذلك من تقاليد ظلّت الدراسات بشأنها شحيحة، مقارنةً بمخطوطات مصاحف المماليك والعثمانيين وغيرها من التقاليد المستقرّة المتداولة؟
يرجع أقدم هذه المخطوطات، وهي قصاصات وأوراق منفردة من الرقاع والرقوق، إلى القرنين الأوّل والثاني للهجرة، السابع والثامن للميلاد، بالإضافة إلى مخطوطات من القرآن تُنسب إلى كُتّاب وخطّاطين مشهورين، من أبرزهم العثماني أحمد قرّه حصاري والخطّاط عمر أقطع.
وهذه المصاحف تغطي مناطق غير تقليدية مثل أفريقيا والصين والهند وجنوبيّ شرقيّ آسيا، فضلاً عن مصاحف الحجاز ومصاحف الزبارة التي كُتبت في قطر، كما أوضحت المديرة التنفيذية لـ"مكتبة قطر الوطنية"، هوسن تان.
وفي الإجمال، يمثّل هذا الإرث من المصاحف ــ كما يوضّح اختصاصيّ المخطوطات في المكتبة، محمود زكي ــ مادّة ثرية ليس فقط لنصّها، وما فيها من طُرق كتابة أوّلية للّغة العربية وحروفها، وعلامات للرسم والإملاء المصحفيّ، لكنْ كذلك لجوانب مادّية وفنّية وجمالية متعددة. وهي مجالات يَعتني بها الاختصاصيّون والدراسون لعلوم القرآن، وعلم المخطوطات (الكوديكولوجيا)، واللغة العربية، والتاريخ، وتاريخ الفنون وغيرها الكثير.
مصحف الزُبارة
تقتني "مكتبة قطر الوطنية" مصحفاً مخطوطاً أُطلق عليه اسم "مصحف الزبارة"، وهو من أقدم المصاحف، ومن أقدم المخطوطات المكتوبة في قطر عامّةً. وفق ما فصّله زكي، فقد كَتب هذا المصحف الشيخ أحمد بن راشد بن جمعة المريخي المالكي، أحد علماء قطر الذين جمعوا بين العِلم الشرعي ونسْخ المصاحف.
وبحسب المعلومات المثبتة في آخر المصحف، التي تُسمّى اصطلاحاً "قيد الفراغ" أو "حرد المتن"، فقد فرغ الناسخ من الكتابة سنة 1221هـ / 1806م في بلدة الزُبارة شمال قطر.
وأضاف أن هذا المخطوط هو أحد المصاحف "التي وصلتنا بخطّ المريخي، حيث يحتفظ 'متحف قطر الوطني'، ضمن معروضاته، بنسخة مصحف بخطّه، من مجلّدين، فضلاً عن نُسخ أخرى خارج الدولة".
صعود الخطّ الحجازي
ظلّ الكوفي الخطّ الذي رُسمت به المصاحف الأولى حتى القرن التاسع عشر ميلادي، حيث بدأت تشيع تسمية الخطّ الحجازي، الأقدم من الكوفي، والذي استُعمل في خطّين (المدني ــ الأكثر أهمّية ــ والمكّي)، لكنّ المستشرقين أجملوا الاثنين في تسمية واحدة هي الخطّ الحجازي.
هذه اللبنة الأولى التي بنى عليها أحمد وسام شاكر، وهو باحث مستقل في المصاحف المخطوطة المبكرة، مشاركته تحت عنوان "المصاحف الأولى: خصائص المصاحف الحجازية المبكرة. تبدأ الحكاية بحصول مستشرقين ورحّالة فرنسيين، في مقتبل القرن التاسع عشر، على رقوق من جامع عمرو بن العاص في منطقة الفسطاط بالقاهرة، واشترتها "المكتبة الوطنية الفرنسية" عام 1833، بينما ذهبت مجموعة منها إلى "المكتبة الوطنية الروسية".
ومن المصادر التي زوّدتنا بحصيلة جديدة من المصاحف والرقوق الحجازية، "قبّة الخزنة" في الجامع الأموي بدمشق، التي حفظتها لقرون عدّة، ونُقلت خلال الحرب العالمية الأولى إلى إسطنبول، وحُفظت هناك في "متحف الآثار التركية والإسلامية" ضمن ما عُرف بـ"أوراق الشام"، وثمة مجموعة كبيرة أيضاً من هذه الرقوق عُثر عليها عام 1973 في الجامع الكبير بصنعاء.
"الفهرست" يفتح الطريق
ذكر شاكر أن تسمية هذا الخطّ جاء عقب نشر المستشرق سلفستر دو ساسي، كتاب "الفهرست" لابن النديم في القرن التاسع عشر، وتحدّث فيه عن أوّل الخطوط العربية: المكّي والمدني والبصري ثم الكوفي. وممّا يورده ابن النديم عن صفات الخطّين، المكّي والمدني، القول "في ألِفاته تعويجٌ إلى يمنة اليد وأعلى الأصابع وفي شكلها انضجاعٌ يسير".
وتحدّث عن المزج بين الأسطر، حيث تتشابك الحروف بينها أحياناً، ونرى الناسخ ــ إن كان محترفاً ــ يضع مسافة، لكنْ كثيراً ما نشاهد تسرّع الناسخ حين لا يتوخّى أخذ مسافة بين الأسطر. كما لاحظ الباحث أن جميع الخطّاطين لم يلتزم طوال الوقت بنقط الإعجام، أي تمييز الحروف المتشابهة مثل الباء والتاء والثاء، ونقط الإعراب لتمييز علامات الإعراب كالفتحة والضمّة والكسرة.
وفي هذه المصاحف المبكّرة، سجّل شاكر استعمال المسافات للتفريق بين السوَر، والبعض كان يضيف شكلاً مزخرفاً، لكنّ هذا كان قبل أن يستقرّ على ما نعرفه اليوم، إذ ووجه برفض في البداية، حيث يروي مصنّف ابن أبي شيبة: "عن عبد الله أنه رأى خطّاً في مصحف فحكّه وقال: لا تخلطوا فيه غيره". وكرهَ بعض السلَف أيضاً كتابة "خاتمة سورةِ كذا" في نهاية السورة، إذ اعتقدوا بضرورة خلوّ النصّ من أيّة كتابة أو رسمة خارجية تنزيهاً له.
مصاحف الصين: تقاليد غير موثّقة
مئات من مخطوطات المصاحف التي كُتبت لمسلمي الصين تمتلكها "مكتبة قطر الوطنية"، وتتراوح كتابتها بين القرنين السابع عشر والعشرين، وهي إمّا مصاحف أو أجزاء مصحفية من 30 مجلّداً.
عرضت وسيلينا سيكولوفا، رئيسة قسم المخطوطات والأرشيفات في المكتبة، الأنماط الزخرفية الرئيسة للمصاحف على الورق والتجاليد، والتي ظهر فيها المزج ما بين التقاليد الإسلامية المستقرّة في بعض حواضر العالم الإسلامي، وبين التقاليد الصينية، أو على الأقلّ المتأثّرة بالبيئة المحلّية. ومن أبرز هذه الزخارف استخداماً كانت الزخارف النباتية، مثل زهرة اللوتس، فضلاً عن أشكال سحابية وغيرها.
وفي مداخلته، قال محمود زكي إن أغلفة المصاحف في الصين وتجاليدها تُصنع من الجلود، على الطريقة المتّبعة في الحواضر الإسلامية، وإنْ كانت الزخارف قد تأثّرت بالفنون المحلّية الطابع أحياناً. كما صُنعت بعض الأغلفة من الورق المقوّى والمغطّى بالقماش، الذي كان يُصنع زخرفياً، في بعض الأحيان، بطريقة التفريغ الفني.
وأضاف أنّ من عادة القائمين على صناعة المصاحف في الصين والمستخدمين لها، أن يكتبوا على ربعة المصحف، وهو المصحف المـُجزّأ لثلاثين جزءاً، بداية الآية التي يبدأ بها الجزء، وأحياناً رقم الجزء باللغة الصينية على الغلاف أو داخله. بينما النص القرآني بطبيعة الحال باللغة العربية.
الفنون المصحفية في جنوب شرق آسيا
تمثّل الزخرفة في المصاحف المخطوطة فنّاً عمليّاً، إذ لها دورٌ ثانويّ مساند للنصّ القرآني نفسه. وتوضّح أنابيل غالوب، رئيسة قسم مجموعة جنوب شرق آسيا في "المكتبة البريطانية"، أن وظيفة الزخرفة الرئيسة في المصاحف هي مساعدة القارئ على التنقّل في النص ووضع العلامات الدالّة على ذلك.
وتفيد بأن الدراسة البصرية لهذه الزخارف تحدّد أيّ تقاليد ينتمي إليها كلّ مصحف من مصاحف جنوب شرق آسيا، وذلك بحسب الطراز الذي تتميّز به كلّ منطقة منها، من ذلك دراسة علامات الآيات، وأسماء السوَر، والإطارات، ومختلف مظاهر الزخرفة المصحفية، لا سيما في أوائل المصاحف وأواخرها، وأحياناً أواسطها.
هذه الطُرُز والأنماط الزخرفية تتمثّل في مراكز رئيسة منها: أقاليم ترغكانو وباتاني وكلانتان في ماليزيا، وإقليما آتشه وجاوة في إندونيسيا.
ومضت تقول إنه حتى الآن جرى توثيق ما بين 700 إلى 800 مصحف مخطوط ينتمي إلى جنوبيّ شرق آسيا، قليل منها يرجع إلى القرن السابع عشر، بينما الغالبية العظمى ترجع إلى القرن التاسع عشر، مشيرة إلى أن "مكتبة قطر الوطنية" محظوظة بأن "يكون ضمن رصيدها هذا المصحف البديع الفخم الذي يُنسَب إلى نمط إقليم ترغكانو الذي يرجع للقرن التاسع عشر".
بحسب عِلمها، تقول غالوب إن هذه النسخة هي النسخة المصحفية الوحيدة التي تُنسب للإقليم، والمحفوظة خارج جنوبيّ شرق ىسيا، حيث لا توجد نسخ معروفة في المجموعات الأوروبية والأميركية. وقد كُتب على هذه النسخة أنها مُلكٌ لشخصٍ ربما كان من الطبقة الحاكمة.
تقاليد جنوبيّ الصحراء الأفريقية
وذهب بنا الباحث والخطّاط محمدن أحمد سالم أحمدو، المتخصّص في خطوط منطقة الغرب الإسلامي وتراثها المخطوط عموماً، إلى مصاحف أفريقيا جنوب الصحراء. وقال إن هذا التراث الأفريقي عانى عموماً من الإهمال، ليس من طرف الآخرين، بل من طرف المنطقة نفسها.
وأضاف أحمدو، الذي في سيرته خطّ المصحف الرسمي لموريتانيا، أن ثمة جهوداً للتعريف به، مشيراً إلى أن نقص المعلومات حوله جعلت البعض ينفي وجوده من الأصل. وفي التعريف بمنطقة جنوب الصحراء الكبرى قال إن هناك عدة أسماء لها، منها "بلاد السودان" و"أفريقيا جنوب الصحراء"، فيما أُطلق عليها حديثاً اسم "الساحل الأفريقي"، وتمتدّ من جنوب موريتانيا وشمال السنغال غرباً، مروراً بمالي، وشمال بوركينا فاسو، والنيجر، وشمال نيجيريا، ووسط تشاد وولايات من جمهورية السودان، لا سيما كردفان ودارفور، وصولاً إلى البحر الأحمر.
في هذا المنطقة شاعت تقاليدُ لخطِّ المصاحف مشتركةٌ في أغلبها، غير أنها تتميّز في بعض المناطق، بفعل مؤثّرات خاصّة بكلّ جهة، كما أضاف. وفي الجملة، رأى أن الأفارقة تمكّنوا من خلق مدرستهم الخاصة في خطّ المصاحف، و"التي يمكن وصفها بأنها متفرّدة إذا ما قورنت بالنهج المتّبع في مناطق أخرى من العالم الإسلامي".
وعرض أحمدو نماذج عديدة لهذه المصاحف التي حرص المشتغلون بها على إخراجها "في أبهى الحلل خطّاً وزخرفةً وتجليداً"، مبيّناً أن صناعة المصاحف كانت مزدهرة في نيجيريا لدرجة أنها كانت تصدّرها لشمال أفريقيا ومصر.
ولفت إلى خطأ يقع فيه البعض بنسبها إلى تمبكتو في مالي، وقد كانت من أهمّ عواصم الغرب الإسلامي، لكنّها في الأعمّ الأغلب مصاحف قادمة من نيجيريا. ولم يكن من الغريب أن تجد فيها من يقول إنه كتب ثمانين مصحفاً، لشدّة التنافس بين القائمين عليها، على حدّ قوله.
وحول الخطوط، قال إن المنطقة عرفت تنوّعاً من النسخيّ في أقصى شرق المنطقة (السودان حالياً) إلى السودانيّ بأنواعه، إلى السوقي، ثم الصحراوي وغير ذلك العديد منها. أمّا الزخارف، فمنها ما يطالعك في مبدأ أوّل صفحة من مصاحف المنطقة باسم الفاتحة بأحرف بارزة؛ وقد تُزخرف هذه البداية أو تؤطّر بإطار، وربما بدأ المصحف بلوحة فنّية، خصوصاً في المصاحف الحديثة. أمّا تلك المكتوبة في شرق المنطقة، فيميل الخطّاطون إلى اعتماد التقاليد الشرقية.
مصاحف بالخطّ البهاري
تناولت الباحثة سامية سيد مصاحف شبه القارة الهندية المكتوبة بالخطّ البهاري، وهو أبرز الخطوط التي انتشرت خلال الوجود الإسلامي في شبه القارة الهندية لأزمنة طويلة تعدّدت فيها تقاليد إنتاج المصاحف. كان ذلك بين القرنين 14 و17 للميلاد، حيث كُتبت المصاحف بالخط البهاري، كبير الحجم.
وأضافت أن المصاحف في هذه الفترة تميّزت بالألوان الزاهية والزخارف المميّزة. ومن أهم ما عُرفت به المصاحف المرسومة بالخط البهاري الحواشي المتعدّدة التي صحبت النص القرآني أحياناً من خلال إطارات مسطّرة، كانت تحوي ترجمات لمعاني القرآن باللغة الفارسية، وأحيانًا تفسيراً للقرآن، فضلاً عن فروق القراءات القرآنية وغيرها، كما هو في المصحف المدروس الذي تحتفظ به "مكتبة قطر الوطنية" وتعرضه في معرضها الدائم.