من يتأمل الوضعية الحالية التي تعيشها الفلسفة في السياق العربي بأعين نقدية، لن يتأخّر في الحكم عليها سلباً، وهي حالة غير معزولة عن الوضعية التاريخية التي عاشتها الفلسفة في السياق العربي بمختلف محطاته التاريخية؛ إذ كانت دائماً محل رفض اجتماعي وسياسي وديني. ورغم اعتماد المناهج التربوية العربية في السنوات الأخيرة تدريس الفلسفة وانضمام دول جديدة إلى دائرة الانشغال الفلسفي، إلا أن هذا الاهتمام المتزايد لم يرتق بالتفكير الفلسفي العربي إلى مستوى الممارسة النقدية وإلى مساءلة الحاضر واستشكاله؛ وهو الأمر الذي تعكسه المناهج التدريسية، والإنتاجات الفكرية الغارقة في المدرسية.
وبمناسبة "اليوم العالمي للفلسفة"، نظّم برنامج الفلسفة في "معهد الدوحة للدراسات العليا"، يوم الإثنين، 22 تشرين الثاني/ نوفمبر الجاري، ندوة علمية خصّصها لدراسة واقع وتحديات وآفاق الدرس الفلسفي في العالم العربي، بحضور ومشاركة باحثين وطلاب وأكاديميين عرب من جامعات عربية مختلفة. وهي مناسبة أضحت بالنسبة لـ"معهد الدوحة" تقليداً سنوياً يحتفي بالفلسفة وبأصدقاء الحكمة في العالم العربي.
هناك نقصٌ في ربط الدرس الفلسفي العربي بالعلوم الاجتماعية
وقد صرح عبد الوهاب الأفندي، رئيس "معهد الدوحة للدراسات العليا" بالوكالة، في كلمته الترحيبية، "بقدرة الفلسفة على تجاوز الحدود الفاصلة بين كل التخصصات المعرفية المختلفة، وكذا مساهمتها في فهم الواقع وتحدياته".
امتدت الندوة على جلستين؛ اهتمت الجلسة الأولى بواقع وتحديات وآفاق الدرس الفلسفي في العالم العربي؛ وقد افتتحت الجلسة الباحثة إليزابيت سوزان كساب، الأستاذة المشاركة في برنامج الفلسفة بـ"معهد الدوحة للدراسات العليا"، إذ اهتمت بتناول بعض المحطات التاريخية التي مرّت منها الفلسفة العربية المعاصرة، مُبرزة التحديات التي تواجه الدرس الفلسفي في العالم العربي؛ ومنها "وصل الدرس الفلسفي بالعلوم الاجتماعية والسياسية" معززة طرحها ببعض السرديات العلمية التي تناولت واقع الدرس الفلسفي العربي.
وفي السياق نفسه، قدمت الباحثة نايلة أبي نادر، أستاذة الفلسفة العربية الإسلامية في الجامعة اللبنانية، مداخلة بعنوان "تحديات تدريس الفلسفة في المرحلتين الثانوية والجامعية"، تناولت فيها بعض المشاكل التي يواجهها الدرس الفلسفي في لبنان. ومن بين أبرز التحديات التي أشارت إليها: "وجود هوة واضحة بين التنظير في المنهاج الفلسفي وبين تطبيقه في الصف، هذا الفرق الذي يدل على خلل في التعاطي مع علم قائم له تاريخه ومنهجياته وأعلامه"، كما قدمت قراءة نقدية لمسار تعليم الفلسفة في القسم الثانوي والجامعي بلبنان، مقدمة أيضاً بعض آليات التعاطي مع مسألة تدريس الفلسفة.
تزداد حاجتنا إلى موافقة الأفكار مع حاجيات سياقنا العربي
من ناحية أخرى، قدم الباحث المغربي محمد الشيخ، أستاذ الفلسفة السياسية وفلسفة الدين والقيم والحداثة بـ"جامعة الحسن الثاني" بالدار البيضاء، مداخلة تناول فيها "بعض مفارقات الوضع الفلسفي العربي الراهن، وذلك من خلال نظره إلى ثلاث محددات تفسر هذه المفارقات. وتتجلى هذه المحدّدات أساساً في الوضع الفلسفي العربي القديم وموقفنا منه، والوضع الفلسفي الغربي الحديث، والواقع العربي الحالي.
تتعلق المفارقة الأولى، حسب الشيخ، في الدعوة إلى استئناف الاتصال بالتراث الفلسفي القديم مع الفشل في إحياء هذا التراث الميت. وتكمن المفارقة الثانية في الدعوة إلى تبني موقف نقدي من الفلسفة الغربية، والعجز في المقابل عن تقديم هذا النقد والاكتفاء بتقديم نقد منكمش على الجانب العقدي. وتتمثل المفارقة الثالثة في التسليم بأن الفلسفة ابنة بيئتها، مع الفشل في إنتاج فكر فلسفي عربي أصيل.
أما الجلسة الثانية فاهتمت بمناقشة قضايا فلسفية معاصرة مرتبطة أساسا بالديمقراطية وحقوق الإنسان. وقد افتتح الباحث اللبناني رجا بهلول، أستاذ ورئيس برنامج الفلسفة في معهد الدوحة، الجلسة بمداخلة حول العلاقة بين الديمقراطية وحقوق الإنسان، متسائلاً فيها عن العلاقة الممكنة بين الديمقراطية وحقوق الإنسان، ومبيّناً العلاقة المتوترة بين الديمقراطية وحقوق الإنسان.
وفي السياق نفسه، قدم الباحث التونسي منير الكشو، أستاذ الفلسفة السياسية بـ"معهد الدوحة للدراسات العليا"، مداخلة تناول فيها "نظرية الديمقراطية بين الفلسفة والعلوم السياسية". وانطلق في مداخلته من تقديم بعض "المواقف الفلسفية المتحفظة تجاه صلاحية الديمقراطية كنظام للحكم ولتدبير شؤون الناس منذ أفلاطون وأرسطو وصولاً إلى القرن العشرين".
وفي مقابل ذلك، بيّن الكشو كيف سيطرت نظريات العلوم السياسية على الجدل حول الديمقراطية وخاصة تلك النظريات المستندة إلى التحديد الواقعي للديمقراطية كما سنّه جوزيف شومبيتر. وقد خلص في مداخلته إلى تبيان الجدل بين الفلاسفة وعلماء السياسة حول مدى إمكانية تجاوز التعريف الواقعي للديمقراطية.
من ناحية أخرى، قدم الباحث المغربي رشيد بوطيب، أستاذ الفلسفة بـ"معهد الدوحة للدراسات العليا"، مداخلة بعنوان "عن فلسفة لا تفكر: في الحاجة إلى ترجمة اجتماعية للأفكار"، تناول فيها الفوضى التي تحكم السياق الثقافي العربي وعلاقته بالسياقات الثقافية الأخرى وخاصة علاقة الفكر العربي بالفلسفة الغربية الحديثة؛ إذ ظلت برأيه "تتحرّك خارج الخصوصية، مرتهنة لثنائيات مزيفة من قبيل الأصالة والمعاصرة، سواء تعلق الأمر بالأفكار التي تم نقلها أو المؤلفات التي تتم ترجمتها أو المدارس الفكرية والأدبية والفنية التي يتم الانفتاح عليها"، مؤكداً في السياق ذاته على الحاجة إلى ترجمة اجتماعية للأفكار؛ تتوافق مع حاجيات سياقنا العربي وأسئلته الراهنة.
وقد شهدت الندوة تعقيبات ونقاشات وإضاءات من طلبة برنامج الفلسفة ومن أكاديميين وباحثين من مختلف التخصصات، ارتبطت أساساً بموضوع الندوة وبمداخلات المشاركين فيها ومثلت مناسبة لإعادة التفكير في واقع الفلسفة في العالم العربي والتحديات التي تواجهه.