قراءة مجلّد منذر جابر "يوسف بك الزين: من جبل عامل إلى الجنوب اللبناني" يستدعي أكثر من تساؤل. أوّل هذه التساؤلات يرجع إلى مكانة يوسف الزين من تاريخ لبنان، ومكانة جبل عامل نفسه، إذ قد يتراءى للسائل أنّهما ليسا بالوزن الذي يستحقّ مجلّداً من قرابة 900 صفحة.
الفترة التي يتناولها مجلّد جابر، هي بالدرجة الأُولى عهد الاستقلال الأوّل، للبنان الذي دخله جبل عامل مُحتاراً ضائعاً، بين أن يلتحق بلبنان، أو ينضمّ إلى سورية أو - وهذا ما يكشفه المجلد - أن يلتحق بفلسطين، التي كانت يومذاك تحتَ الانتداب الإنكليزي.
كان جبل عامل، إلى هذه الدرجة أو تلك، جديداً على لبنان، وهذا ما يحيّر العامليِّين واللبنانيّين. كيف يمكنُ لجديد على لبنان، أن يحظى بهذه السيرة الباهظة. السؤال الذي يبدو بديهياً، احتاج إلى قرابة 900 صفحة، ليتجلّى كما هو في التباسه وأطرافه وتطوّره. كان هذا أوّل الاستقلال، أو، في معنى آخر، أوّل تكوين لبنان الحالي، وأوّل صناعته. إنها لحظة، كان جبل عامل في جِدّته على البلد، أولى الأطراف بروايتها، لأنه وهو المستجدّ الطارئ، كان أقرب الأطراف لمعاناتها.
السؤال الذي يبدو بديهياً احتاج إلى قرابة 900 صفحة
كان تكوين بلدٍ من جملة انقسامات وجملة اختلافات، يترك للطرف اليتيم فيه، أن يواجه أكثر من غيره، وأحياناً وحده، مخاض هذا التكوين ومقوّماته. يمكننا لذلك أن نجد، في جبل عامل، الراوي الأكثر قدرة على رواية سيرة، كانت أيضاً سيرة وجود وقيام. لقد كان، لكل تفصيل فيه، ما يدل على هذه السيرة، وما يطرح سؤالاً لها وعليها.
كان على الوافد المنبوذ أن يشخّص، في كلّ دقيقة أو ثانية من سيرته، إلى ما يتكوّن في الأفق، وما ينهض على الطريق، في حين أنّها تبقى، مع ذلك، سيرته الخاصة، وفي حين أن التاريخ الخاص، لليتيم المنبوذ، هو أقدر تواريخ البلد، وتواريخ جماعاته وطوائفه، على أن يعبّر عن المشروع العام، وعن أحواله وتحوّلاته. إنها رواية لبنان، بل تاريخه من الحضيض. إنها تاريخ قيامته انطلاقاً من العدم الذي خرج منه.
لذا نفهم لدى قراءة مجلّد جابر، كيف بدأ لبنان من هوامشه، وربّما نفهم بعد ذلك لدى قراءته الآن، كيف انقلبت هذه الهوامش، وكيف استحالت عضوية ومتناً. ربّما نفهم من ذلك أنّ مجلّد جابر الذي يبنى من علاقات الداخل العاملي، وعلاقات الداخل اللبناني، هو بهذه الصفة، تاريخ الملحمة اللبنانية من أدنى درجاتها، ومن هوامشها.
لذا نفهم كيف أن الصفحات التسعمئة وأكثر مشكلة، كل واحدة منها، من قسمين يتقاربان أحياناً في الطول، هما السرد وتليه هوامشه التي تساويه أحياناً. كأن رواية جبل عامل، رواية الهامش اللبناني، هي أيضاً، مثل موضوعها، تبنى على هوامش، وتنبثق من جبال الهوامش. أي أن السيرة انطلاقاً من الهامش هي أيضاً تاريخ، بلغة الهوامش وتقاطعها وركامها.
من هنا فإن عمل جابر، هو، في حقيقته، تاريخ لبنان الحقيقي، تاريخ يومي للبنان، بما يتكوّن ويتفاعل ويتحرّك في تفاصيله الصغيرة، في علاقاته العادية، في مجرياته السابقة على الأحداث، والتي تصدر الأحداث، في سياقاتها وفي مساراتها وحولها، وما بعدها.
يمكن لذلك أن نرى في علاقات يوسف الزين، وعلاقات جبل عامل، في علاقات الرجل وأقرانه العامليّين بالانتداب وبقية لبنان. أن نرى في يوميات ذلك، ما يفضي، على نحو ما، إلى معارك ومواقع واشتباكات، لن تكون، بحدّ ذاتها، سوى مسارات هذه العلاقات وفيضها.
هكذا نرى كيف تجنّب الزين والعامليون الآخرون ثورات الاستقلال السوري، والحروب الأهلية بدءاً من ثورة 1958. سنرى كيف تفعّل هذه العلاقات اليومية، وكيف تتفاعل مع ما يجري في البلد، وفي المنطقة.
في كلّ ذلك وأثناءه وبعده، لم تكن الأحداث الكبرى سوى ما ينبني على هذه العلاقات، وما يتفاعل بها وحولها. كأنما تاريخ البلد هو دوران علاقات تصطدم، في جريانها، بانفجارات ومعارك، لا تلبث أن تنطوي في يومياتها، وعلاقاتها السائرة. هكذا يمكن للعاديات، والسائرات، واليوميات، أن تتحوّل إلى تاريخ، وأن تخلق، أثناء ذلك ملامحها، أو ما تدعوه ملاحم، أو ما تتوهّمه كذلك.
* شاعر وروائي من لبنان