عند الحديث عن الفن التجريدي، وعن تاريخ الفن (والآداب والفكر أيضاً) بشكل عام، قلّما يجري استحضار أسماء نسائية، ما يترك انطباعاً بغيابهنّ عن المشاركة بهذا التاريخ. لكنّ الاشتغالات ذات المنحى النسوي، وإعادة قراءة تواريخ الفن والإبداع المختلفة، أظهرت عدم صحّة هذه القراءة، وأن الغياب إنّما هو، في الواقع تغييبٌ.
ويأخذ تغييب الفنانات والكاتبات أشكالاً مختلفة: إما التعتيم على منتجاتهنّ انطلاقاً من أحكام مسبقة، أو وصمها والتقليل من شأنها، أو حتى منعهن عائلياً واجتماعياً من ممارسة الاشتغالات الإبداعية، كما هو الحال في العديد من المجتمعات التي يُحصَر عمل وإنتاج النساء فيها بفضاء ضيّق لا يتجاوز أحياناً فضاء بيتهنّ.
عبر معرض "يصنعن التجريد"، الذي فتح أبوابه في التاسع عشر من أيار/ مايو الماضي ويستمر حتى الثالث والعشرين من آب/ أغسطس المقبل، أراد "مركز بومبيدو" الفني في باريس الإضاءة الدور الأساسي الذي لعبته عشرات الفنانات في التيّار التجريدي، وعلى التعتيم والإهمال الذي عانين منه.
يقدّم المعرض أكثر من 500 عملاً لـ106 فنانات من أوروبا والولايات المتّحدة والعالم العربي وأميركا اللاتينية وآسيا، وتتنوّع هذه الأعمال بين لوحات تشكيلية ومنحوتات وصور ضوئية وفيديوهات لعروض راقصة، بحيث يغطّي المعرض اشتغالاتٍ تمتدّ على أكثر من قرن، بين عامي 1860 و1980.
يكتشف زائر المعرض أسماءً أساسية في تاريخ الفن رغم انحصار شهرتها في عالم المشتغلين في الإبداع البلاستيكي والتشكيلي، كما هو حال الأميركية الأوكرانية جانيت سوبيل (1894 ــ 1964)، التي وقّعت لوحاتٍ مستخدمةً تقنيّة الطلاء بالتنقيط، التي اشتُهر بها جاكسون بولوك، حيث يرى العديد من النقّاد أن بولوك تأثّر، بشكل أو بآخر، بها. وغيابُ اسمها وأعمالها عن الأضواء، مع حضور بولوك ونجوميّته (والذي تُباع أعماله بعشرات الملايين من الدولارات) يعطي، وحده، صورةً عن التغييب الذي تعانيه الفنانات.
كما يُعرّفنا المعرض باشتغالات فنّانات مؤسّسات للتيار التجريدي، مثل البريطانية جورجيانا هاوتون (1814 ــ 1884)، التي تُعَدّ من أوائل الذين وقّعن ووقّعوا لوحات تجريدية، حيث ذهبت بعوالمها الروحانية إلى مساحات تغيب فيها الأشكال الواقعية وتحضر فيها الخطوط والألوان الإيمائية، لتضع لوحاتٍ تجريدية قبل سنواتٍ طويلة من بدء فاسيلي كاندينسكي ــ المعروف بأب التيّار التجريدي ــ وضع أعمالٍ من هذا النمط الفني.
وفي إضاءته على الإضافة النسائية للعالَم الفني خارج أوروبا والغرب بشكل عام، يقدّم المعرض لوحاتٍ ومنحوتات لفنانات مثل اللبنانيّتين أوغيت كالان (1931 ــ 2019) وسلوى شُقير (1916 ــ 2017)، والتركية فخر النساء زيد (1901 ــ 1991)، والجورجية فيرا باغافا (1907 ــ 1988)، إلى جانب فنانات من أميركا اللاتينية، مثل الأرجنتينية أليسيا بينابل (1913 ــ 1982)، والكوبية كارمن هيريرا (مواليد 1915)، والبرازيلية ليجيا كلارك (1920 ــ 1988).
ولأنّ وجوه أغلب الفنانات المشاركات في المعرض ليست مألوفة لدى الجمهور الكبير، بسبب التاريخ الطويل من التغييب الذي عانين منه، فقد اختار القائمون على المعرض وضع صورهنّ الشخصية، مع نبذة عنهنّ، في مدخل المعرض، في ما يشكّل فعلاً مقاوِماً يمثّل الخطوة الأولى للزوّار قبل التنقّل بين الصالات والأعمال المعروضة فيها.