لشخوص جوزيف حرب ــ في معرضه البيروتي الأخير، "هنا والآن" ــ حضورُها المسرحي، حيث المشهدية لا تفوّت حتى الرؤوس المنفردة المنحوتة وحتى الأيدي والأعضاء البشرية، بما في ذلك الوجوه والأفواه. لوحاته ومنحوتاته ملأت صالة "جانين ربيز" الضيّقة في العاصمة اللبنانية، التي استضافت المعرض حتى العشرين من أيار/ مايو الجاري؛ ملأتها بحيث بدت الصالة وكأنها تعجّ بها. إنها على جدران الصالة، وفي أرضها، توحي بما يشبه أن يكون ضاحية أو بلدة. إذ ما بين شخوص اللوحة وشخوص المنحوتة أكثر من صِلة، ثمة ما يُشعِر بأن الجميع جاؤوا من مصدر واحد، بل وفي ساعة واحدة. كأنما الجميع يحتشدون على أرض الصالة، ليلعبوا حياة مشتركة.
ليست وحدة الأسلوب فقط التي توحي بذلك، بل ما يشبه وحدة الرؤيا. الجميع في درجة 1 من التواؤم والتناسب، وأكاد أقول الحوار. إنّنا أمام مخيّلة لها حساباتها وموازينها، وتَخلق من داخل واحد، ومن بؤرة واحدة. قد يرجع ذلك إلى جلاء الأسلوب، وقد يعود إلى شمول الرؤية، لكنْ ثمة بالتأكيد بين هذه اللوحات وتلك المنحوتات ما يجعلها متآخية ومتساوية ومتقاربة كنُسَخٍ عن بعضها البعض. أشخاص المنحوتة يبدون وكأنهم خرجوا من اللوحات، أو أنهم يلعبون في ما بينهم، ما يلعبونه في لوحاتهم.
بل هم، في اجتماعهم مع اللوحات، يغيّرون من طبيعة المكان، ويحيونه إلى مسكن لهم، بل وإلى فضاء للعبهم، بحيث يتحوّل اجتماعهم وتواصلهم على أرضه، إلى سردية كاملة، فكأنهم هكذا يكمّلون بعضهم بعضاً، ويواصلون بعضهم البعض. والحقيقة أنهم في انتشارهم وتلاقيهم، لا يؤلفون فقط هذه السردية، ولكنهم يبدون أكثر انتماء إلى المكان، بل ويحيلونه إلى مستودع لكثرة حقيقية.
لوحات واثقة من حالها إلى حدٍّ يجعلها لا تبالغ ولا تستعرض
هم كذلك أكثر من أنفسهم وأكبر أحجاماً. ما يجعل ذلك بيّناً ومحسوساً هو ما نشعر به إزاء اللوحات والمنحوتات، من كونها تخرج من القصّة ذاتها، ومن كونها لم تلتق البارحة بل توجد معاً من عمر كامل، وتخرج من حياة كاملة. إنّها في اللوحات موجودة بقوّة أكيدة، ومن عُمْر. إنها مرسومة بتلك القوّة التي أوجدتها، والتي خرجت منها. إنها في بنائها، وفي انبناء اللوحة نفسه، وفي توازناتها وتفارقاتها، ذات حضور حاسم. حضور لا يقترب فقط من المسرح، وإنما يقترب بالدرجة نفسها، وربما أكثر، من الحوار والقصّة. إن قوّة الرسم هي من حضور هذه الشخوص والأشياء القاطع.
قوّة الملوّنة والهندسة والتركيب والبناء، لا تُشعر فقط بدرجة من الحِرفة العالية، التي تقوم على تملّك واسع للفن، وعلى أصالة ومعمار وشخصية ولوحة خاصّة، بل نشعر أيضاً بما قد يتعدّى ذلك، وإنْ كان لا يمنع صدوره عن الزاوية ذاتها. إنه بما تملكه اللوحة والمنحوتة من تعبير وكُمون وإضمار وشحن، وربما فكرة تنقل الفنّ إلى أعلى من كتلته وصياغته وبنائه. شيء يجعل العمل قادراً على أن يغزو المشاهد وأن يتطابق معه في لحظة وناحية.
لا نعرف كيف نصنّف لوحة جوزيف حرب. قد تكون الواقعية الحديثة تسمية لائقة بها، لكنّ مثل لوحته يدعونا إلى أن نخرج من التصنيفات، إلى أن نبحث فيها عن حضور شبه مطلَق للفن. مع ذلك، لأن لوحة جوزيف حرب لا تبدو في حيرة من نفسها، إنها واثقة من حالها إلى حدٍّ يجعلها لا تبالغ ولا تستعرض ولا تُفرط، أي إلى حدٍّ يجعلها تركن إلى نفسها، وتعوّل بالدرجة الأولى على قوّتها الخاصّة.
إننا هنا أمام فنّ يَظهر منه جلد الفنّان وقرارته، أمام فن موجود قبل اللوحة ويستمرّ فيها. هناك بالطبع مرجع لهذا الفنّ، وربما مدرسة ما، لكنّ اللوحة، رغم ذلك، تبدو مدرسةً لنفسها. هذا ما يمكن أن نجد له اسماً آخر، هو الأصالة. جوزيف حرب، الذي نعرفه من وقت طويل، يطلّ علينا، في معرضه، بتلك القوّة التي لا تصدر فقط عن تخمير طويل، وإنما هي أيضاً جديدة في نفسها وعلى نفسها. يمكن هنا أن نجد أنفسنا حيال فن يحفظ سرّه، ويبدو كأنه لا يحتاج إلى أكثر منه.
إنها المخيّلة التي تتحوّل إلى ما يشبه الواقع. اللوحة التي تصل، وكأنها في الأساس منذورة للوصول بكلّ جزء فيها، وبمجرّد إطلالتها. القامات المنحوتة التي تبدو أعلى من نفسها، والأيدي التي تواصل الحكي، والفم الذي وحده في المرطبان، شبه أسطورة، والأشخاص الذين يكملون حواراتهم في اللوحات. الكثرة التي تتحوّل إلى حياة، والرؤوس المنفردة، تواصل أسطورتها الخاصة.
* شاعر وروائي من لبنان