كانت قد مرَّت قرابةُ ثلاثة أشهر على توقيع الجانبَين، الجزائري، ممثَّلاً بـ"جبهة التحرير الوطني"، والفرنسي، في مدينة إيفيان السويسرية، اتفاقيةً في الثامن عشر من آذار/ مارس 1962 لوقف إطلاق النار وبدء فترة انتقالية تسبق استفتاءً لتقرير مصير الجزائر في تمّوز/ يوليو من العام نفسه؛ وهي فترةٌ ميّزها الكثير مِن أعمال العنف والشغب التي قامت بها "منظّمة الجيش السرّي" الفرنسيةُ التي عارضَت استقلال الجزائر، وكان شعارُها في ذلك: "الجزائرُ فرنسيةٌ وستبقى فرنسية".
نحن في السابع مِن حزيران/ يونيو 1962. الساعةُ تُشير إلى منتصف النهار وأربعين دقيقةً، حين دوَّت أصواتُ ثلاث قنابل فوسفورية على مقربةٍ مِن "جامعة الجزائر"، أو "الجامعة المركزية"، في الجزائر العاصمة (تأسَّست عام 1833). تتصاعدُ ألسنةُ النيران في مكتبتها وعددٍ من أبنيتها الأُخرى، مُخلّفةً إتلاف 400 ألفٍ (من أصل 600 ألف) كتاب ومخطوطٍ قديم بلُغات مختلفة، فضلاً عن تخريب مدرّجَين ومخابر للعلوم.
وكما في كلّ الحرائق، هُرع رجال المطافئ، الفرنسيّون، إلى موقعِ الحادثة. لكنّ ما قاموا به كان مختلفاً هذه المرّة؛ إذ تُفيد شهاداتٌ تاريخية بأنُّهم أتوا على ما أبقاه الحريق، حيث صوّبوا خراطيم المياه إلى الكتب التي لم تُطاولها ألسنةُ النيران بحجّة منع انتشارها، وهو ما يُؤكِّد أنَّ الحادثة - كغيرها من الأعمال الإرهابية التي ارتكبتها "منظّمة الجيش السرّي" - إنّما ارتُكبت بتواطُؤ مع السُّلطات الاستعمارية.
أتى الحريقُ على 400 ألف كتاب ومخطوط من أصل 600 ألف
خلال العام الماضي، اعتمدت السُّلطات الجزائرية السابعَ مِن حزيران/ يونيو مِن كلّ عام "يوماً وطنياً للكتاب والمكتبة"، تُقام فيه تظاهُرات وفعاليات في مختلف المدن الجزائرية حول الكتاب والمكتبات. وضمن فعاليات هذا اليوم، احتضنَت "المكتبة الوطنية الجزائرية"، الثلاثاء الماضي، تظاهُرةً تضمّنت ثلاثة محاور رئيسية؛ هي: إطلاق وزارة الثقافة قافلةً لتوزيع قرابة 160 ألف كتاب على مكتبات الولايات العشر الجديدة جنوبي البلاد، ومعرضٌ توثيقي مِن تنظيم "جامعة الجزائر" يضمُّ كتباً تاريخيةً ونماذج من كُتب جرى إنقاذُها جزئيّاً من حريق عام 1962، إلى جانب صُوَر وقصاصاتٍ ومقالات صحافية عن الحادثة.
أمّا المحورُ الثالث، فكان ندوةً من تنظيم "المكتبة الوطنية" و"المركز الوطني للكتاب" بِعنوان "الكتاب والمكتبة: تفعيلٌ للذاكرة والإبداع"، اعتبَر فيها باحثون وأكاديميّون أنَّ حرق مكتبة الجامعة المركزية واحدةٌ من "أبشع الجرائم الثقافية للاستعمار الفرنسي في الجزائر"، وأنّها "جريمة دولة تُؤكّد أنّ الاستعمار الفرنسي عمل على طمس الذاكرة والهوية الجزائريّتَين بالموازاة مع عمله على إبادة الجزائريّين".
في مداخلته التي حملت عنوان "دَور الكتاب والمكتبة في الحفاظ على الذاكرة وتكوين الشخصية الجزائرية"، قال الأكاديميُّ والباحث في التاريخ، محمّد لحسن زغيدي، إنَّ فرنسا بدأت احتلالها الجزائر بإبادة الجزائريّين ومُحاوَلة طمس فكرهم، وأنهته بالطريقة نفسها، والهدف: "أنْ تجعل مِن الشعب الجزائري شعباً أُمّياً لا يقرأ ولا يكتب، والأهم شعباً بلا ذاكرة"، مُضيفاً أنّ حرق المكتبة، التي كانت تضمّ الكثير من الكتب القديمة والنادرة وكانت مِن بين أكبر المكتبات في العالَم، هو "أكبر جريمة ثقافية ارتكبها الاستعمار الفرنسي في الجزائر".
وذكّر زغيدي بأنَّ الاستعمار الفرنسي أسَّس المكتبة عام 1835، أي بعد سنوات قليلة من احتلال الجزائر، وجهّزها بمئات الآلاف مِن الكتب والمخطوطات والوثائق التي جرى نهبُها مِن مناطق جزائرية مختلفة خلال الحملات العسكرية، مُشيراً، في هذا السياق، إلى أنَّ الفرنسيّين نهبوا، مثلاً، تسعة آلاف مخطوط من مدينة قسنطينة مع بداية الاستعمار، إضافةً إلى آلاف الكتب التي كانت تضمُّها مكتبة أحمد باي في المدينة نفسها، وهذا الأمرُ تكرَّر في مدنٍ كثيرة أُخرى؛ مثل معسكر والمدية والبُلَيدة والجزائر العاصمة.
واعتبَر زغيدي أنَّ حرق المكتبة يندرج ضمن "سياسة الأرض المحروقة" التي انتهجها الاستعمارُ الفرنسي في الجزائر طيلة 132 عاماً؛ وهي سياسةٌ تقوم على إبادة البشر والفكر أيضاً، وفق تعبيره، مُشيراً إلى أنّ الجزائر كانت تحوي قبل 1830 (تاريخ بدء الاحتلال) مكتباتٍ ومدارس وزوايا دينية في كلّ قرية وبلدة ومدينة.
أمّا الباحثُ والأكاديمي جمال يحياوي فقال، في مداخلته التي حملت عنوان "حرق مكتبة جامعة الجزائر"، إنَّ الحادثة تسبَّبت في إتلاف أكثر من 400 ألف كتاب، لافتاً إلى أنّ الاستعمار الفرنسي عمد إلى نهب عددٍ غير قليل مِن الكتب والمخطوطات والوثائق التي سلِمت من النيران ونقلَها إلى فرنسا، مُضيفاً أنّ حرقَ المكتبةِ "جريمةٌ ثقافية كُبرى تُضاف إلى الجرائم الثقافية الكثيرة التي ارتكبها الاحتلال؛ ومِن بينها قتلُ الكتّاب والمفكّرين والفنّانين ونفيُهم".
ليس الحريق حادثاً فردياً منعزلاً عن النظام الاستعماري
وذكَر يحياوي، في هذا السياق، أنّ الفرنسّين استهدفوا، بمجرّد دخولهم إلى الجزائر، الأرشيفات والسجلّات التي كانت موجودةً في المساجد والزوايا والأوقاف؛ حيث قاموا بحرق وإتلاف أجزاء منها ونهب أجزاء أُخرى ونقلها إلى فرنسا، وهو ما ظلّ مستمرّاً خلال كلّ حملاتهم العسكرية في مختلف المناطق، مُضيفاً أنَّ الجزائر تميّزت، قبل الاستعمار، بمستوىً ثقافي كبير، وبنشاط المؤسَّسات الدينية والتعليمية في حواضر مختلفة؛ مثل الجزائر العاصمة وتلمسان، وهو ما تؤكّده كتابات الرحّالة الأوروبيّين الذين سبقوا أو رافقوا الحملة الاستعمارية.
ورأى يحياوي أنّه، وعلى الرغم من كون "منظّمة الجيش السرّي" الإرهابية هي مَن ارتكب الجريمة، إلّا أنه ينبغي عدمُ تحميلها وحدَها المسؤولية؛ لأنّ "ذلك يُعطي انطباعاً بأنّ ما جرى كان حادثاً فردياً مُنعزلاً عن النظام الاستعماري الفرنسي الذي أباد البشر والفكر، بينما الحقيقةُ أنّها جريمة دولة بامتياز".
تقاسُم أدوار
تشكّلت "منظّمةُ الجيش السرّي" (OAS) بعد فشل انقلاب عسكري على شارل دوغول في نيسان/ أبريل 1961، على يد عسكريّين فرنسيّين رأوا أنّه قدّم تنازلات لـ"جبهة التحرير الوطني". ورغم أنّ عملياتها الإرهابية تزايدت بعد إبرام "اتفاقيات إيفيان" عام 1962، فإنّ فكرها كانَ جزءاً من العقيدة الاستعمارية القائمة على الإرهاب. على هذا النحو، يمكن فهمُ جرائمها كسلوك انتقاميّ مِن الدولة الفرنسية دون أن تتحمّل مسؤوليته.