يكاد يكفي استحضار اسم الفيلسوف الفرنسي، ليتوانيّ الأصل، إيمانويل ليفيناس (1906 ــ 1995)، لتخطرَ في البال العناوين الكبرى لتجربته الفكرية، والتي عُرفت بتمحوُرها حول فلسفة الأخلاق، ولا سيّما مسؤولية الفرد تجاه الآخر، والدور الكبير الذي يلعبه الوجه في هذه العلاقة مع الآخر، والذي لم يسبق لفيلسوف قبل ليفيناس أن أعطاه هذه الأهمّية.
وإن كانت هذه الصورة شبه الثابتة عن الفيلسوف تُبَرَّر بمجمل أعماله التي نشرها بعد الحرب العالمية الثانية، والتي فتحت خطّاً جديداً في الفلسفة القارّية، ولا سيّما "الكلّية واللامتناهي" (1961)، الذي يُعَدّ أبرز أعماله، فإن عودةً إلى كتاباته المبكّرة قد تساعد في العثور على صورةٍ أُخرى للفيلسوف تختلف إلى حدٍّ بعيد عن تلك، ذائعة الصيت، التي ارتبطت باسمه.
هذا ما تفعله الباحثة الفرنسية جويل هانسل في كتابها "ليفيناس قبل الحرب: فيلسوف الهروب"، الصادر حديثاً لدى منشورات "مانوسيوس" في باريس، حيث تعود إلى أعماله التي نشرها بين 1930 و1945، ولا سيّما كتابه "عن الهروب" (1935)، الذي تعتبره المؤلّفة تمثيلاً عن مرحلة الشباب تلك.
منذ البداية، تبني هانسل قراءتها لليفيناس الشاب على أساس تبايُن واضح مع "ليفيناس ما بعد الحرب" وثيماته وأطروحاته المعروفة، فصعوبة الوجود لا تقتضي بالضرورة انفتاحاً على الآخر الذي يحضر كحلّ، كما سيقترح لاحقاً، بل هروباً من الذات إلى حدود الكينونة، بحثاً عن الحرّية، وهو ما سيقود الفيلسوف الشاب إلى البحث في فلسفة الجسد، وإلى تناول حالات يبدو فيها الجسد وكأنها خارج نفسه، كما هو الحال مع الغثيان، والألم، وعدم القدرة على النوم.
كما تتوّقف المؤلّفة عند "مرحلة فرنسية" شبه مجهولة من تجربة ليفيناس، الذي عُرف بميله إلى الفلسفة الألمانية، وهو الذي كان من أوائل الذين كتبوا عن هايدغر بالفرنسية، وأوّل مَن ترجموا "التأمّلات الديكارتية" لـ إدموند هوسرل؛ حيث تقرأ نصوصاً له على ضوء تأثّره بـ هنري برغسون، وغابريال مارسيل، وجان فال، وغيرهم من الفلاسفة الذين أُعجب بإصغائهم إلى "المحسوس والمعيش"، اللذين أبدا اهتماماً بهما في ذلك الوقت، قبل أن تتّخذ فلسفته منحىً أكثر ميتافيزيقيةً في العقود اللاحقة.