"كآبة المقاومة" للاسلو كراسناهوركاي: حكاية الرحلة وما تبعها

20 سبتمبر 2022
لاسلو كراسناهوركاي في مدريد، تشرين الأوّل/ أكتوبر 2018 (Getty)
+ الخط -

"كآبة المقاومة" رواية للهنغاري لاسلو كراسناهوركاي، ترجمها إلى العربية الحارث النبهان (دار التنوير، 2020). هذه الترجمة المتينة مأخوذة عن الإنكليزية، وقد استحقّت الرواية بها "جائزة مان بوكر الدولية" عام 2015. عنوان الرواية لا يستوي في عربيّته، وخاصّة لِما لكلمة المقاومة من إشاراتٍ وأبعاد في أدبياتنا وفي كلامنا. لعلّ الأمر ليس نفسه في الأصل الهنغاري والإنكليزي، لكنّ قراءة الرواية لا تشي بالرّكاكة التي يوحيها العنوان، بالعكس من ذلك ما تزال الرواية تُشعِر بقوة في الأسلوب. بل بأسلوب خاصّ يستثير في قارئها نهماً إلى متابعة القراءة، واستمتاعاً بسردِها ومبانيها، بحيث لا يعود العنوان بعيداً أو غريباً، بقدر ما هو صادر عن تفاعلات النصّ وسيرورته، هو بذلك من جنس النص وفي صميمه.

الرواية تنفي دائماً، في مستواها، أنّها رواية على طول الخطّ، وإن كان ما تسوّقه من سرد، وما ترويه من أحداث، وما تديره من أسئلة وأفكار، إنما هو رواية أولاً وأخيراً. منذ البداية والسيّدة بلوف تعود بالقطار إلى بيتها، وتضطرّ إلى أن تسير على قدميها بُرهةً لتصل إليه، وستستقبل في الليل، في ساعة غير متوقّعة، مدام إيزتر. نحن هكذا في حكاية الرحلة وما تبعها، لكنّ الرحلة في القطار مشهدٌ تتعاقب فصوله، ونحن نسلخ وقتاً في تأمّله ومتابعته، بحيث يتراءى لنا أنّه فصلٌ كامل. لن يكون تحرّك السيد إيزتر في شقّته، وما يترتّب على ذلك من أفكار، سوى فصلٍ آخر.

كذلك لن يكون تجوال فالوسكا في المدينة، وتأمّله للسيرك الذي احتلّ الساحة وكأنّه حُوتٌ خرج من الماء، سوى فصلٍ بحدّ ذاته. ستتعاقب الفصول. فالسرد يراوح بين الوقائع والأفكار، الأفكار التي تترى وتتلاحق هي أيضاً وقائع، فالسرد هو هذا الاستطراد لتفاصيل، تحدث أمام العين وداخل النفس، في آن معاً.

تتردّد الرواية بين عجيب ليس عجيباً وواقع ليس واقعاً

إنها هكذا كلٌّ مُجتمِعٌ ومُندمج وموحّد. كلٌّ ينتقل من ساحة إلى ساحة، ومن فصلٍ إلى فصل، ومن مسرح إلى مسرح، ومن مشهد إلى مشهد، بحيث إنّ الرواية التي تقع في حوالي 400 صفحة، ليست سوى هذه المحطّات والمسارح والمشاهد  والفصول. ذلك يعني أنّنا قبالة مسارح وساحات ومواقع من أشياء وأفكار، مزدوجة ومتعارضة ومتقاطعة. نحن في فصل أمام ساحة السيرك، والدوران حوله، وما يصدر عنه، وما يقع في نفس وفكر الرائي إليه. نحن في فصلٍ آخر أمام الدهماء، وهي تجوب المدينة وتنتقل من مكان إلى آخر، وتعيث فساداً هنا وهناك، نرى ذلك بعيني فالوسكا. سنكون في فصل آخر مع السيد إيزتر، ومع عينيه، وهو يتأمّل ويفكّر في ما يراه وفي ما يتأمّله. إنه يفكّر، لكنّه، وكذلك فالوسكا، وكذلك ــ وإن يكن بدرجة أخرى وسياق آخر ــ السيدة إيزتر، يتأملون بأعينهم ونفوسهم وأفكارهم.

كآبة المقاومة - القسم الثقافي

الأفكار، في هذه الحال، ليست جاهزة ولا سابقة ولا معروفة، إنها ما يحدث داخل النفس، وما قد يفاجِئ النفس، ويرتدّ عليها ويتعارضُ معها ومع صاحبها. هؤلاء الناس، وخاصّة أولئك الذين لا مصلحة لهم في الأمور كما هو فالوسكا والسيد إيزتر، لا يفتأون يصنعون أفكاراً ويواجهون أفكاراً، هي أيضاً هواجس وأحاسيس واستيحاءات ومجازات. أفكارٌ كأنما هي أيضاً وقائع من نوع خاص. العين ترى، لكن العقل والنفس أيضاً كذلك يريان. هكذا نحن أمام رواية، الغريب فيها كما هو السيرك والحوت والدهماء والأشخاص، الغريب فيها هو ابن الحياة، وهو غريب كالحياة نفسها، التي تفيض بالغرابة.

لا يفعل السيرك شيئاً وكذلك الأمير الذي لا نكاد نراه، ولا الدهماء من ثمانمئة شخص. هؤلاء جميعاً صُنعوا كذلك، الحياة جعلتهم كذلك، والغرابة طبعٌ فيهم وأصل لهم. لذلك تتردّد الرواية بين العجيب الذي ليس عجيباً، والواقع الذي ليس واقعاً. نحن هكذا أمام غرابة، قد لا تكون سوى استعارة، سوى مجاز. قد تكون مستوى من الفكر، وأيضاً مستوى من الأقدار والمصائر. إنها الرواية التي هي أيضاً الحياة وليست شيئاً آخر.

فازت الرواية بـ"جائزة مان بوكر"، لا يفاجئنا ذلك. إنها تستحقّها، بل تستحقّ أي جائزة أُخرى، إذ نخرج من القراءة بشعور أن ذلك قد يكون أفضل ما قرأنا. أمّا المفاجئ أيضاً فهو أن ترجمة الترجمة هنا، تكاد تبدو أصلاً.


* شاعر وروائي من لبنان

موقف
التحديثات الحية
المساهمون