استطاعت القهوة أن تقدّم ذاتها لغةً عالمية، حين يمارس طقوسها الفرد والجماعة في غالبية بقاع الأرض، وهي في أنواعها العديدة، وأشهرها العربية (أرابيكا) ذات الحصة الكبرى من الإنتاج العالمي، والروبوستا المشهورة في القهوة السريعة والإسبرسو، رحّبت بأن تكون مجال حوار ثقافي يبدأ بتعريف الذات والتعرف إلى الآخر حين تكون القهوة تعبيراً ثقافياً مفضلاً.
حين تدخل القاعة 47 في "كتارا" بالدوحة، تطالع مجلساً عربياً وفي أرجائه تفاصيل من خمسين قطعة تراثية تحكي قصة القهوة في معرض "قهوة لشخصين.. حوار الثقافات"، ومجموعة من الصور وشاشة الفيديو تعرض الممارسة الثقافية المتعلّقة بالقهوة العربية المعدّة في المنزل وبعض ما ينبغي أن تفعله وألا تفعله، عند شرب القهوة في جلسة اجتماعية وكيف تتعامل كمُضيف كريم وضيف لطيف.
مبادرة المجلس
و"قهوة لشخصين" (يستمر حتى 21 أيلول/ سبتمبر الجاري) جزء من المعرض الدولي المتنقّل "المجلس – حوار الثقافات"، وهو مبادرة ثقافية أطلقها "متحف الشيخ فيصل بن قاسم آل ثاني" في عام 2018، وجالت في ست عواصم أوروبية.
هل يمكننا سدّ فجواتنا الثقافية من خلال كوب من القهوة؟ هذا ما تطرحه أولى لافتات المعرض، وهو السؤال الذي يجيب عنه عنوان المعرض، جاعلاً من حضور شخصين سواء من ثقافة واحدة أو من اثنتين مختلفتين محلّ قبول بل وترحيب، خصوصاً أن مكان المعرض تحوّل إلى مجلس.
والمجلس في شبه الجزيرة العربية هو ذاته "المضافة" في بلاد أخرى، حيث يقع على صاحب (راعي) المجلس أن يُكرم ضيفه، والقهوة تفتتح طقس الاستقبال بممارسة استقرّت على تقاليد عبر مئات السنين في كيفية تقديمها وشربها.
أكثر من مشروب
ومن تميّز القهوة العربية الذي لا يظهر في شأن الضيافة وحسب، بل للتعبير عن قضايا مجتمعية في أفراحه وأتراحه، حتى الطعم الموحّد لسلاسل القهوة العالمية، لطالما كانت القهوة طوال تاريخها أكثر من مجرد مشروب.
ومع أن هذا المشروب موغل في العادات والأعراف الاجتماعية، لكنه أيضاً يتكيّف مع أساليب ابتدعت في الغرب مثل "القهوة على الطريق" المتوافرة في محطات الوقود والمطارات.
كما كيّفت سلاسل المطاعم والمقاهي العالمية منتجاتها لتناسب الأذواق الذين يطلبونها ساخنة وباردة بدرجات متفاوتة من الكافيين ومختلفة في النكهات.
مفردات تراثية
نتعرّف في زوايا المعرض إلى المجلس المفروش بالمقاعد ذات المساند، وجميعها ملبّسة بنسيج السدو التقليدي من تراث البادية، وكان يستعمل في السابق في حياكة بيوت الشعر والبُسط، ثم جرت عصرنته في المقاعد وتزيين الجدران مع المحافظة على نقوشه المتوارثة، التي يسيطر عليها اللون الأحمر.
على أحد الرفوف صينية قهوة من سورية تعود إلى القرن التاسع عشر، مرصّعة بالنحاس والفضة ومنقوشة بأنماط نباتية وخط عربي.
وصينية أخرى كانت تستخدم عادةً لتقديم الطعام والمشروبات مثل القهوة، والنص الأنيق المخطوط الذي يحمل النقوش الزخرفية النباتية، ومكتوبٌ بخط ثلث باهت وغالباً يحمل تعريفاً بالصانع.
وفي زاوية، ثمة مرآة الطاووس الشهيرة بطاووسين متقابلين في إطار خشبي ومروّسة بالبسملة، وبينما ترمز الطواويس في المسيحية إلى الخلود فإنها تنبئ بالثراء وطيب العيش في الثقافة الإسلامية.
كما لدينا العديد من دِلال قطرية تعود للقرن العشرين مصنوعة من البرونز، وبجانبها فناجين البورسلان التي تقدّم فيها القهوة العربية، وهي ذات حجم يناسب راحة اليد وليس لها آذان كالأكواب التي تشرب فيها القهوة التركية أو الإسبرسو.
وإذا عاينّا طبقاً مغطّى بغطاء على شكل قُبة، فإنما هو طبق تمر، والمعروض هنا مصنوع في تركيا من البرونز، ويرجع إلى القرن الثامن عشر.
صناعة مرافقة
أما ما عُرض من منتجات الصناعة التي رافقت عالم القهوة، فمنه "تيرموس" قهوة من المملكة المتحدة يعود لأربعينيات القرن العشرين من الألمنيوم والحديد والخشب والإسفنج، وخلاط زجاجي استخدم سابقاً في القرن الماضي، في تكوين رغوة الحليب بتحريك المقبض، حيث يعمل على لفّ المضرب في الإناء مما يخلط الهواء بالحليب لينتج عنه رغوة.
وفي زاوية منعزلة يقبع الغرامافون الذي يشير إلى جلسات ذات طابع مدني مستقر ينعم بالكهرباء، بينما على مسافة منه مصباح إنارة زيتي من قطر يعود لسنين مبكرة من القرن العشرين أيضاً، ومصنوع من الحديد والبرونز والزجاج.
وفي عام 2015، أدرَجت "اليونسكو" القهوة العربية على قائمة التراث الثقافي غير المادي، بوصفها مظهراً مهماً للضيافة في المجتمعات العربية وطقساً احتفالياً للكرم، كما سبقتها "القهوة التركية" التي أدرجت عام 2013، بينما تواصل إيطاليا مساعيها للاعتراف بقهوة الإسبرسو علامة أصيلة في ثقافتها.