"في استشكال اليوم الفلسفي": بحثاً عن لغة تفكّر

22 يونيو 2021
محمد أبو هاشم محجوب
+ الخط -

عادةً ما تُختصر عتبات النصوص في جهاز العَنوَنة (العنوان الرئيسي والفرعي) لكن قراءة كتاب "في استشكال اليوم الفلسفي.. تأملات في الفلسفة الثانية" لـ محمد أبو هاشم محجوب (منشورات كلمة، تونس 2021) تستدعي أن ننتبه إلى عتبة أخرى قلما نلتفت إليها عادة؛ وهي تقديم السلسلة التي ينتمي إليها العمل؛ سلسلة "حروف الفلسفة".

نقرأ في هذا التقديم: "حروف الفلسفة إحالةٌ على كتابها الفاتح لأسمائها ومعانيها منذ أربعةٍ وعشرين قرناً. وهي أيضا إحالةٌ على الابتداء الثاني للفلسفة في العربية، وما كان اقتضاه من الجهد لاستنباتها في تربة غير تربتِها. ومثلُ هذا الجهد هو مطلوبها اليوم تأليفاً يعلِّم، ويجرِّب، ويفكِّر، ويستشكِل، ويحاوِر. وهو مطلوبها أيضاً ترجمةً تُنطق الفلسفةَ بالعربية إنطاقاً فطِناً ومتعقِّلاً".

طوال الكتاب، ستبدو هذه الفقرة وكأنها تعمل - بما أشارت إليه من "ابتداء ثان" أو "جهود الاستنبات" - مثل إضاءة شاملة على مسالك عمل يبدو متشعّباً وعَصيّاً على الإمساك بأفكاره لولا عناية المؤلف بالعتبات، ومنها الفهارس.

يأتي كتاب محمد أبو هاشم محجوب في مقدّمة (بعنوان: في المعاني الكثيرة للثاني)، وأربعة أبواب ("اليوم خارج المفهومية الفلسفية"، "زمانية الحوَل: تجارب اليوم في الفلسفة الأولى"، "نحو مفهوم تعقّلي للفلسفة"، "مولد التفلسف في زمن الترجمة المستحيلة")، يقسّمها المؤلف إلى "تأمّلاتٍ" هي المادة المكوّنة للعمل، وهي تسمية تبدو كمقترحٍ لجنس كتابة فكريّ، مغاير للمقال وللمحاولة، لعلّه مستلهم من ديكارت، ولكننا لو قصرنا نظرنا على كتاب "في استشكال اليوم الفلسفي" سنجد أنه نوع من الكتابة حريص على أداء المقولة الفكرية والحفر في طبقات المعنى مساءلة وفحصاً، كما أنه حريص على التأنّق الأسلوبي كوسيلة لتفجير الكثير من طاقات العربية، ولعلها لا تنبجس دون هذا الاشتباك بأطروحات حول الحداثة والترجمة والتأويل والزمانية.

يثير الكتاب غبار قضايا انفضّ عنها المفكّرون العرب

يبدو الأسلوب في ذاته أفق تفكير، حيثُ تُقوّل العربية بما تتحاشاه عادة من تفكير منعكس عليها، وذهاب إلى حيث لم تذهب من قبل، وإن حدث ذلك أحياناً في طبقة صوت عالية لا تبلغ سمع قارئ لم يتمرّس بـ"عصوف الجدالات الفلسفية" والعبارة للمؤلف.

نقف على هذا الأسلوب ونحن نلتقط، عبر جُمل مكثّفة، من الكتاب ملامح تضيء الأفكار التي تدور في فلكها أطروحات المؤلف، فنقرأ مثلاً في تعريفٍ بـ"الفلسفة الثانية" أنها "تعقيبٌ على فلسفة ظلت لأكثر من خمسة وعشرين قرناً تطالب لنفسها بأنها الفلسفة الأولى من جهة التأسيس، وتعقيباً من جهة كون الخطاب ههنا ليس خطاب تأسيس وإنما هو خطاب إعادة تأسيس".

ومن الملاحظات التي يسوقها صاحب كتاب "قصيد الفلاسفة" وتقودنا إلى تفكّر في اللغة، وطبعاً بها، أن "السبيل الأولى التي يجوز لنا أن نتسيّر عليها ضمن مسعى البحث عن مدلول للابتداء الذي للثاني، هي سبيل الألفاظ والكلمات التي قد تكشف عن التباسات وتشابكت وضبابيات لا مناص لنا من اختراقها: فألفاظ العربية فيها من تجاور المعاني وتشابهها واشتباهها ما يبرّر كل مسعى للتأريخ والتفريق، ولتسطير الحدود ولا سيما إذا ما أضفنا إلى حيثياتها المعجمية المختلفة صعوبة تأهيلها وانتدابه لإعطاء المفهومات الفلسفية في عبارة لم تكن مهيّأة لاستقبال الفلسفة".

أما إذا أردنا أن نفهم المقصود من مفردة "استشكال" التي ظهرت في العنوان فإن المؤلف يقترح معنيين لها: "الصيرورة إلى الشكل" و"الصيرورة إلى المُشكِل"، مستنداً إلى تطويع المعاني والمباني في العربية، ومقترحاً مسوّغات فلسفية من الفكر الغربي يمكن التوسّع فيها لو ساير القارئ الهوامش التي يقترحها المؤلف.

لم تُكتب هذه التأمّلات دُفعة واحدة، وهو ما يُهدر بعض ملامح التجانس والتتابع التراكمي في الكتاب. لقد أتت نصوصُ "في استشكال اليوم الفلسفي" موزّعة بين أزمنة وسياقات متعدّدة يجد لها المؤلف في كتابه وشائج وعلاقات وروابط، وقد رسم محجوب في نهاية عمله خطاطة للمناسبات التي وُلدت ضمنها نصوصه، بين ما أُلقي في ندوات ومحاضرات وبين ما يُنشر لأوّل مرة، ويطلق على هذه الخطاطة مسمّى "مآتي النصوص المؤلفة للكتاب"، وهي تسمية أخرى يقترحها، ومعها تبدو منظومة العتبات - من العناوين إلى الفهارس - مثل نص مواز، من الواضح أن قد حضي بعناية خاصة من المؤلف، وبه يرسم خريطة يهتدي به القارئ متى احتاجها.

تاريخ الفكر العربي محكوم بمنطق السبق البطولي إلى فكرة ما

ومع تعدّد انشغالاته وملامساته الفلسفية، كقضايا الوجود والحرب والمدينة، قد يبدو لنا العمل ضرباً من كتابة السيرة الذاتية الفكرية، وهو ما يتضح في كثير من مواضع الكتاب، ومنها مجادلات محمد أبو هاشم محجوب لفلاسفة اليونان وقدامى العرب وصولاً إلى المعاصرين، فيحضر أفلاطون وهيغل وهوسرل وابن خلدون وعبد الله العروي وبول ريكور وجورجيو أغامبن، حيث أن كل مسار فكريّ إنما هو جدل متواصل ومتجدّد مع هؤلاء.

على المستوى المضموني، يعجّ كتاب صاحب كتاب "هايدغر ومشكل الميتافيزيقا" بالإشكاليات الحارقة التي بات تأجيل طرحها - عربياً - نوعاً من الانتحار الجماعي، من ذلك تطرّقه إلى التأريخ للفكر، ووضعُه على طاولة "الاستشكال"، فيشير إلى أن "معالجة تاريخ الفكر - عندما يتعلق الأمر بالفكر العربي - لا تخرج عن تاريخ أفكار" في حين أن المطلوب تحويل المفكرين وكتبهم ومعرفتهم إلى "عناصر ضمن إشكاليات حية"، فالمؤلف - ويستأنس محجوب بما ينتج في الغرب ضمن تاريخ الفكر - "ليس جملة من المقالات الجديرة بتوثيق دوكسوغرافي، ولا هو جملة من السبوق المؤرخة والمثبتة في ضرب من السلم الزمني، وإنما هو حيّ لا كمرجع يثبِّت وترسَّخ صورته كإحداثية غير قابلة للزحزحة وإنما  يُدرج في حوار حي".

غياب معايير كتابة تاريخ الفكر عربياً قد جعل من المقاربات الدارجة في ثقافتنا محكومة بمنطق "العجيبة المتحفية" أو "بمنطق السبق البطولي إلى فكرة ما"، وهو ما يجعل من محاولات إعادة قراءة التراث مجرّد "إعادة تأهيل للماضي"، كما يقول محمد أبو هاشم محجوب، فيما ينبغي "استرجاع فكرنا إلى دائرة الفكر، ومغادرة الريفلكس Reflexe التأريخي الذي في كل واحد منا: إن مفكرينا العرب الذين ينبغي إعادة الاعتراف بهم هم قطع حية في الجسد الفكري الكوني الحي، ولكنهم قطع متحفية قد تدغدع شعور الفخر فينا ولكنها لا تغادره".

في استشكال اليوم الفلسفي

يطلب صاحب كتاب "المدينة والخيال" محاورة وجوه الفكر العربي ليس فقط من زاوية القضايا والمفهومات بل "علينا أن نحاورهم بمعاصرتنا" كما يقول، ويضيف أن علينا محاورتهم "بمشاكلنا لا بوصفهم أصحاب حلول وإنما بوصفهم شهوداً نستدعيهم إلى مقام البيّنة وتقديم البيّنة témoignage".

من تأمّلات محجوب أيضاً حديثه عن الترجمة باعتبارها تفلسفاً حيث يستعيد قضايا مثل تنزيل "مسألة الوجود التي استشكلها هيدغر ضمن أفق تاريخ الميتافيزيقا الغربية" إلى العربية، مركّزاً على حيثيات ترجمة مفردة Sein ليقف عند "تحيّر بلبل اللسان والفكر معاً" بين قائلين باستعمال تصاريف فعل "كان" فترجمة Sein بالكون والكينونة مقابلاً لها في العربية وقائلين بالوجود مقابل ذلك، ومنهم المؤلف الذي يصوغ تساؤلاً فريداً: "ما هي التكلفة التي يتعيّن علينا كمتفلسفة منخرطين ضمن تقليد فلسفي واصطلاحي عربي طويل أن ندفعها للتخلي عن الوجود والانخراط ضمن تقليد الكون والكينونة، ومن نتائج ذلك أن نحمل القول الفلسفي الفارابي والسينوي والرشدي على ضرب من الصمم عن موضوع الفلسفة".

هكذا، وبين ثنايا تأملاته، يثير المفكّر التونسي غبار بعض "الاستشكالات" التي انفضّ عنها المفكّرون العرب، معيداً لها حيويتها عبر حفر يضرب في العيون الحارة للغة العربية. إنه تفكير في العربية وبالعربية. لا يخلو الأمر من تطريب. وعادة ما كان القارئ العربي محروماً أن تُطرب ذهنه وأذنه الكتابةُ الفلسفية.

المساهمون