تبدأ الرواية بسرد ديناميكي: الأسماء الحقيقية الواردة في النص تتداخل مع الخيال الواقعي المؤلم: سوتشي، 15 أيلول/ سبتمبر من عام 2020، الساعة 6.15 صباحاً بالتوقيت المحلي: يستيقظ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ليرد على مكالمة هاتفية عاجلة من وزير الدفاع. في الليلة نفسها، يظهر جسم مكعب مجهول الهوية على شرفة قصر رئاسي في يالطا. لم تستطع أسلحة الجيش الروسي المتطورة التعامل مع الهدف.
بدلاً من ذلك، يخترق ذلك الجسم الفضائي الغريب العمود الفقري لشبكات الاتصال في البلد، ويستولي على المعلومات الكاملة، بما في ذلك قاعدة البيانات السرية. سرعان ما يظهر بوتين على شاشات التلفزيون في جميع قنوات العالم في بث مباشر مخاطباً الغرب: "إذا لم يختفِ الجسم الغريب من أراضي روسيا بحلول الظهيرة، سنطلق 45 صاروخاً باليستياً محملاً برؤوس نووية على أميركا وحلفائها: سيد ترامب، لدينا 56 دقيقة فقط لإنقاذ العالم".
مع تقدّم الرواية (صدرت في ترجمة إنكليزية عن "أمازون")، سيدرك القارئ أن هذه البداية المشوِّقة التي تنذر بفناء البشرية، لا سيما إذا ما أخذنا بعين الاعتبار شناعة كل من بوتين وترامب وطريقة تعاملهما مع القضايا الكبرى (وليس شرقنا الأوسط إلا دليلاً على حماقة الاثنين)، هي مجرد منصة لمحتوى أكثر أهمية من الرواية نفسها.
إنها رؤية كاملة، ومشروع ثقافي وإنساني متكامل: غايا. إنه الاسم الذي اختاره مؤلف رواية "غايا" ومؤسس منظمتها العالمية حارث يوسف، تيمناً بالأسطورة الإغريقية وبأمنا الأرض، الإلهة الأولى والأقدم التي تمثل الفراغ البدائي الذي خرج منه كل شيء. من غايا الأرض ــ الأم خرجت السماء، ومنها جاء أيضاً أورانوس، ومنهما سلالة العمالقة. غير أنَّ أورانوس لم يكن سعيداً بأبنائه العمالقة القبيحين، فقرر أن يحبسهم في سرة أمهم غايا. تألّمت غايا واجتمعت مع أبنائها للانتقام. خذلها جميع أبنائها ولم يستجب لها إلا كرونوس، قائد الجبابرة ووالد زيوس، الذي خصى أباه انتقاماً لأمه.
يستفيد مؤلف العمل حارث يوسف من معاني هذه الأسطورة ليسقط استعاراته وأسئلته ومعانيه الخاصة: ألم نخذل كوكبنا الأرض نحن الذين نسكنه؟ ألم يخربه قادته بسياساتهم التي لم تأت إلا بالحروب والدمار والكره؟ ألم نحوّله إلى مقبرة؟ وماذا عن التلوث؟ وماذا عن وضع المرآة؟ وماذا فعل أفيون المال فينا؟ وماذا عن الجشع المادي وضيق التصور ونمط الحياة الاستهلاكي؟ ألسنا نعاني من حمى البيع؟ أليست مفردات البيع والشراء هي قيمة حياتنا؟ هل استطعنا أن نحوّل المال إلى قيمة روحيّة وإنسانية عليا؟ وماذا عن التربية؟ هل نحن أحرار أم إننا سجناء لأنظمة وتشريعات ودساتير تحكم كوكبنا؟ هل تمكنا من خلق مجتمع مثالي سواء في الشرق أم في الغرب؟
ليس الحل في طرق تفكير جديدة، بل في طرق أصلية منسية
كل هذه الأسئلة الإشكالية وغيرها، يطرحها حارث يوسف ويجيب عنها عبر روايته التي تشكل جزءاً من مؤسسة دولية تحمل الاسم نفسه. تتخذ أجوبة الكاتب، من خلال الرواية والمشروع على حدٍّ سواء، شكلاً جديداً، إذ يطلق أفكاره عن رقمية جديدة تهدف إلى إنشاء مشاريع عالمية لمواجهة تحديات العالم الرقمي المعاصر، وبالتالي حماية البشرية من مستقبل آلي لا يمكن التنبؤ به: مشاريع لحماية البيئة وإصلاح النظام المالي العالمي.
"الفكرة الرئيسة التي تهيمن على روح العمل، وعلى مشروع غايا نفسه، هي العثور عن إجابات للقضايا العالمية للقرن الحادي والعشرين وخلق مستقبل تعيد فيه الإنسانية اكتشاف معناها على مر التاريخ. نريد تحرير البشرية من نزعتهم الاستهلاكية، إنشاء منصة رقمية كوكبية لضمان النشاط الحيوي للأنظمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والمالية المستقبلية بشكل شفاف. غير أنّ أولويتنا القصوى الآن هي في التحوّل: أي تهيئة الظروف اللازمة لكوكب الأرض لتلقي وضع كيان قانوني بيئي يتمتع بسمات ووظائف حصرية"، يقول مؤلف العمل ومؤسس منظمة ومشروع غايا العالمية ومنصتها الرقمية.
إنه مشروع جديد من التحولات ورواياتها إذاً. وهو يختلف جوهرياً عما تحيل إليه كلمة تحولات في الأدب، تحولات أوفيد على سبيل المثال، تلك التي تعني، في أصلها، تغيراً في الكينونة، كينونة الإنسان غالباً، حيث جرده من هويته الأصلية معطياً إيّاه هوية أخرى، مغيراً في ذلك صورته وناقلاً إياه من شكل وجودي محدد إلى شكل آخر فيصبح الإنسان مثلاً شجرةً أو نبعاً، كوكباً أو حجراً. إن تحولات "غايا" أكثر واقعية وبراغماتية، وهي تشمل مجالات الحياة كافة بدءاً من التحولات السياسية والاقتصادية والبيئية، مروراً بالتكنولوجية والتعليمية الثقافية، لينتهي المطاف، أخيراً، بالتحولات الذهنية، التي تعتبر أسمى أنواع التحولات، والتي تعتبر ثمرة التحولات الأخرى.
من المؤكد أنه لا يمكننا حل أي مشكلة بيئية، أو اقتصادية، أو اجتماعية، أو ثقافية إذا لم نفكر بطريقة جديدة. غير أن حارث يوسف في روايته "غايا" لا يدعونا إلى التفكير بطريقة جديدة، بل إنه على العكس، يدعو إلى طريقة التفكير الأصلية والأصيلة المنسية منذ زمن طويل، ذلك أن أسلافنا كانت لهم علاقة روحية بأرضهم. بهذه الطريقة فحسب سنتمكن من معالجة الخراب الذي سببناه لكوكبنا الفريد.
* كاتب ومترجم سوري مقيم في إسبانيا