يمكن لرواية الكاتبة الكولومبية إنغريد روخاس كونتريراس "ثمار الشجرة المُسكِرة" أن تحدث في أي زمن، فهي رواية عن الحرب واللجوء، يرويها أطفال من زواياهم الخاصّة. بذلك فهي رواية تفترقُ عن الزمن وتبني عالمها في رِحاب البراءة وفي ضيقِ القسوة في الوقت نفسه. في الرواية الصادرة حديثاً عن دار "فواصل"، بترجمة مريم عيسى، تفكيكٌ لعالم المخدّرات والجريمة باستخدامِ عقلٍ طفولي يؤخّر الوعي بما حدث. عندما يكتشف الأطفال عُنفَ ما عايشوه في طفولتهم، تكون شخصياتهم قد تكوّنت على الصمت والحذر والهروب. لكن ممّا يهربُ إنسانٌ لاجئ خرج من بلدٍ يسكنه الموت إلى بلدٍ يرفلُ بالطمأنينة؟ تخبرنا كونتريراس بأنّه يهرب من ذاكرتهِ إلى النّسيان.
تتناوب طفلتان قادمتان من عالمين مختلفين على سرد حكايتيهما. تنتمي بترونا إلى أحياء الصفيح الفقيرة، وتروي جانب أهلها من الحكاية، وهو جانبٌ انتقاميّ، يضفي وجهاً عدوانيّاً إلى القصة على الرغم من قيَم العدالة التي تتوارى وراء العنف، حدّاً تبدو العدالة التي تلتصق بالجريمة والخطف قيمةً زائفة تتستّر بالعنف. تقارب الكاتبة موضوعاتٍ عديدة من غير أن تعرّفها على نحو محدّد، بالتأكيد هذا من دروس الحرب، فالكاتبة تكتب حكايتها بحسب تصدير النّص.
أمّا عن الطفلة الثانية شولا، فهي تنتمي إلى أسرة غنية تقطن حيّاً سكنياً راقياً، وتروي جانب أهلها من الحكاية، وهو جانبٌ متعالٍ، يضفي وجهاً قاصراً إلى القصة على الرغم من قيَم السماحة التي تتوارى وراءَ ما هو دَعيٌّ وفصامي، حدّاً يبدو معهُ الخلاص الفردي قيمةً فضلى ومثالية، وهو حلٌ مشهودٌ لهُ في البلدان التي عرفت اقتتالاً داخلياً.
تفكيكٌ لعوالم المخدّرات والجريمة وللتفاوت الطبقيّ
لكنّ الكاتبة لا تُوقف حكايتها هنا، وإنّما تروي مثالب الخلاص الفردي للعائلة التي أعادت في أميركا سيرةَ عائلة بترونا في كولومبيا. إذ تأخذ شولا، في أميركا، دور بترونا عندما كانتا تعيشان في كولومبيا، كما لو أنّ الحكاية ارتحالٌ بين فضاءين، كلّ منهما يصنع الآخر ويقابله في كفةِ الزمن الذي تدور دوائرهُ على البطلتين. تستخدم الكاتبة خياراً فنّياً مثالياً للسرد، حيثُ تبدأ بترونا حكايتها وهي في عمر الخامسة عشرة، فيما تنتهي حكاية شولا وهي في عمر بترونا عند البداية.
تبني الكاتبة حياةً وتهدم أخرى على التوازي، وفي غمرة البناء والهدم تصنع توازناتٍ وتعقد مقارنات. تتبدّى الكتابة صفقةً مع الذاكرة: اكتب ما تريد الخلاص منهُ كي أمنحكَ النّسيان. وهذا مشابه لعقيدة المجموعة التي لجأت إليها العائلة الكولومبية في الولايات المتّحدة.
تظهر حكاية الطفلتين هنا؛ سردهما لعذابات الفقر والاغتصاب من جهة بترونا، ولعذبات فقدان الأب والبلد وخيانات الأم وتقلّباتها من جهة شولا، محاولةً للشفاء باستخدام الكتابة، لا سيّما أنّ الراويتين تبدآن البدايات ذاتها، صامتتين، بترونا أمام العائلة التي سوف تخدمها، حيثُ شولا تحصي الكلمات القليلة لبترونا، وفي بلد اللجوء تتذكّر شولا الخادمة بترونا، وتفكّر بالفتيات اللواتي يراقبن صمتها وارتباكها في أميركا ولربّما يعدّدن كلماتها مثلما كانت تفعل مع بترونا في كولومبيا. وعلى هذا الخيط الخفيّ الذي يربط البطلتين، وحول تلك الصلة التي حافظتا على سرّيّتها، تلتئم الحكايات الفرعية جميعها: لقد امتلكت الطفلتان، من غير أن تعيا، أسرار الرواية بالكامل، ومن ثمّ جعلت منهما الكاتبة راويتين عَليمتين تواجهان الصمت؛ إحداهما تتقدّم نحو الأمومة، والأخرى تتراجع إلى الطفولة.
تعمل بترونا لدى عائلة سانتياغو التي تعطف عليها، لكنها تتورّط ــ بسبب خلفيتها الطبقية ــ مع عصابة إجرامية وتتآمر على العائلة التي احتضنتها، حيثُ يُخطَف الأب، وتنجو الطفلتان كاسندرا وشولا من عملية الخطف. تساعد بترونا الطفلة شولا على الهروب من الخاطفين، وتدفع ضريبةَ ذلك بأن تُخطَف هي، وتغتَصَب، وتتركها عائلة سانتياغو تواجه مصيرها بمفردها. تُقدّم العائلة طلب لجوء إلى الولايات المتّحدة؛ يخرجون، ويلتحق بهم الأب بعد سنواتٍ طويلة. فيما بترونا تفقد ذاكرتها وعائلتها في حي الصفيح، تعود إليها ذاكرتها بالتدريج، لتبني حياتها على أنقاضِ حياةٍ قديمة آفلة.
تُلخّص هذه الحبكة الأحداث الكثيرة في الرواية (384 صفحة)، لكن بين هذه الأحداث الفردية، تنقل الكاتبة الفضاء العام في كولومبيا بدءاً من العام 1989 حتى عام 1995، وتُطابق الجدول الزمني للأحداث العامة مع الجدول الزمني لحكايتها. فالرواية تحدث في جوّ الاضطراب السياسيّ والاقتتال الأهلي، الاغتيالات والتفجيرات، وحروب عصابات المخدّرات. وهو فضاءٌ مسموم، دفع بشولا، التي شغلت أكبرَ مساحةٍ من السرد، إلى مقارباتٍ مؤلمة، إذ تُقارن والدها المُختَطَف برجل العصابات المُلاحَق وتاجر المخدّرات الشهير بابلو إسكوبار، وتجد شبهاً مع ابنتهِ. خصوصاً عندما تُرسل شولا لأبيها ــ ولسنوات ــ تسجيلاً صوتياً من أميركا يُذاع عبر راديو في برنامج مخصّص للمفقودين: "مرحبا بابا، إنّنا نتذكّرك كلّ يوم...".
راويةٌ تتقدّم نحو الأمومة وأخرى تتراجع إلى الطفولة
تبقى الشجرة المُسكِرة رفيقة شولا في بلدها كولومبيا، حيث نلمح العنف من خلال تساؤلاتها البريئة عن معنى الاغتيال، ومشاهداتها الكثيرة التي منها: حذاء الطفلة المتبقّي بعد التفجير، والكلب بالأطراف الثلاثة، والأطفال الذين يشمّون الغراء في أكياس ورقية، في بلدٍ حيث المكان المسالم الوحيد فيه هو المقبرة، وتبقى الشجرة رفيقتها عند الانتقال إلى أميركا حيثُ الماء متوفّر طوال الوقت.
في انتقال العائلة انتقالٌ من مواطني الدرجة الأولى إلى لاجئين معدمين، وقد تحوّلوا من أسرة إلى رقم في قضية اللجوء. أمّا الشجرة المُسكِرة التي كانت في حديقة الدار في بوغوتا، أصبحت شولا تحملها معها، شجيرةً، في كيس بلاستيكي إلى المكتبة، حيثُ تقرأ عن كولومبيا كي تشعر بالطمأنينة. وتصوّر الراوية أخيراً مشاعر اللجوء: "عندما استطعت الابتعاد عن الأنظار، ذهبت إلى كابينة الهاتف وطلبت الاتّصال برقم منزلنا في بوغوتا. نسيت كم مضى من الوقت وأنا أستمع إلى الرنين، كأنّه صادرٌ من تحت الماء وبعيدٌ وضائع. تخيّلت بيتنا المهجور، ربما تملأه الآن صناديقُ سكّان جدُد... كان الاستماع إلى رنين الهاتف وسيلةً للعودة إلى المنزل".
* كاتب من سورية