كتابٌ عن تاريخ الكتاب! يوجد من ذلك الكثير. مؤرّخون وكتّاب وباحثون فعلوا ذلك. وهي نفسها المغامرة التي تصدّى لها المؤرخ والمكتبيّ الفرنسي يان سورديه (1971)، في عمل بعنوان "تاريخ الكتاب والنشر" صدر هذا العام عن منشورات "ألبان ميشال". فما الجديد الذي يقترحه؟
قد تجعلنا العلاقة التقنية التي تربط المؤلّف بالكتاب نخمّن بأن هناك ما يختلف في هذا العمل عن بقية ما أُنجز في الإطار ذاته. لكنّ الخبرة المكتبية لا تحضر إلّا كخلفية. وربما نعتقد بأن ما راكمه الباحث حول تاريخ الكتاب ــ وهو الذي يشرف منذ سنوات على مجلّة بعنوان "تاريخ وحضارة الكتاب" ــ سيمدّه بمادّة عمله، لكنّ ذلك لن يضمن له تقديمَ جديد.
تقع الإضافة التي يقدّمها سورديه في مكان آخر، فحضور النشر في العنوان لم يكن مجرّد لمسة ديكورية، بل سيترتّب عليها اقتراح رؤية مختلفة لكامل تاريخ الكتاب، فعادةً ما يقف المؤرخون عند تحوّلاته التقنية والثقافية على مرّ العصور، لكنّ إدخال تاريخ النشر إلى جانبه سيضعنا أيضاً أمام تاريخ الممارسات الحافّة بصناعة الكتاب، بما يجعلها أكثر من صناعة؛ إنّها عملية توليد حضاري تنشأ ضمن تفاعلات متداخلة ومعقّدة ومنعكسة (تغيير الفضاء الحضاري يترتّب عليه تحوّل في تاريخ الكتاب، وهكذا).
عاش الكتاب حالة من القداسة سقطت مع الحداثة ثم استُؤنفت
ينطلق سورديه من قراءةِ هيستوغرافيا الكتاب (كيف كُتب تاريخه؟) وأوّل ما يشير إليه هو أنّه حقل معرفيّ لم يتبلور إلّا في القرن العشرين، كفكرة في بداياته، وكمنجز يتراكم باستمرار منذ منتصفه. ويجعل المؤلّف لتاريخ الكتاب تاريخَ ولادةٍ مع صدور عمل بعنوان "ظهور الكتاب" لـ لوسيان فافر وهنري جان مارتن في 1957، مع ملاحظة لطيفة بأنّه ظهر في الدار نفسها، بل والسلسلة نفسها (بعنوان: تطوّر البشرية)، التي يظهر فيها عمل سورديه.
قبل تلك اللحظة التاريخية، لم يكن إنجاز تاريخ الكتاب ممكناً إلّا في حدود الكتابة الانطباعية العامة، فمع استقرار نظام بيبليوغرافي عالمي بات معظم ما يُنشر ككتب مرئياً بشكل ما، وبالتالي فإن توليد أرقام وإحصائيات ووضع مقارنات بين مجموعات الكتب المتناثرة هو ما يتيح قول شيء تاريخيّ عن الكتاب.
لا يفوت سورديه أن يشير إلى أنّ المسطرة التي قادت انطلاقات التأريخ للكتاب هي رصد التحوّلات التقنية، من الأزمنة البعيدة إلى يومنا، بما في ذلك من إغفال للبعد البشري حيث تتداخل في عملية ظهور أيّ كتاب عدّة "شخصيات"؛ مؤلّفون ونسّاخ ومقتنون وباعة ورقباء، وصولاً إلى شخصيات الأزمنة الحديثة من ناشرين وقرّاء. ومع مثل هذه الملاحظات نفهم من البداية أنّ كتاب سورديه سيزاوج بين هاجس كتابة تاريخ الكتاب وهاجس نقد ما لم يُكتب بعد منه.
يؤكّد المؤلّف على أن المناهج التي وُضعت إلى اليوم ضمن حقل هيستوغرافيا الكتاب تستطيع أن تفسّر لنا لماذا ظهرت المطبعة في ألمانيا، ولماذا حدثت طفرة في أرقام النسَخ المطبوعة في إنكلترا القرنِ التاسع عشر، وكيف ظهر كتاب الجيب، لكنّها لن تفسّر أبداً لماذا كان كتاب "الاعترافات" لأغسطينوس بذلك التقسيم المحدّد، ولماذا جرى الاستقرار على أجناس مثل الرواية وأقصيت أخرى من المطبوع.
يلفتنا المؤلّف أيضاً إلى أنّ تاريخ الكتاب بات يستدعي تواريخَ موازيةً: تاريخ القراءة مع ظهور حقل بحثيّ يؤكّد على أهمّية القارئ في تشكيل أفق أي نص، وقبل ذلك تاريخ الكتابة، وتاريخ العلامات، وتاريخ التبادل الاقتصادي والمعرفي (...). لذلك، يعتبر سورديه أنّ أقرب توصيف يُتيح أن نرى الكتاب في السلّم التاريخي هو اعتباره "خميرة"، أي إطاراً تتجمّع فيه عناصر متعدّدة تظلّ تتفاعل معاً عبر الزمن إلى أن تُفرز وجهاً جديداً للكتاب، ولكلّ ما حولها.
في هذا السياق، يناقش المؤرّخ مقولة أنّ علينا أن نفكّ الأسطرة عن الكتاب وأن ننظر إليه باعتباره بضاعة، تحكمها قوانين البضائع الأخرى نفسها. يرى سورديه أنّ تاريخ الكتاب هو ما يدلّنا على أنّ هذا الشيء مفلتٌ من قالب البضاعة، فالأخيرة مفهوم مرتبط بالسوق، في حين أنّ تاريخ الكتاب قد تمرحل من دون وجود سوق تقريباً، كما هو الحال في العصور الوسطى التي تمتدّ على فترة زمنية أطول من العصور الحديثة.
تتفكّك مهنة الناشر بمرور الزمن بين مجموعة مهمّات ومهن
قد ينتبه قارئ عربيّ هنا إلى أنّ قياس مقولة سورديه على التاريخ العربي يبيّن أنّ تلك الحقبة قد عرفت فيها مدنٌ مثل بغداد ودمشق والقاهرة والقيروان وفاس وقرطبة أسواقاً حيوية للكتب، حيث لم تكن هناك مؤسّسات سياسية أو عقائدية تمنع تبلور سوق الكتب، لكنّنا لا نستطيع تحميل سورديه مسؤولية كتابة تاريخ الكتاب في حضارات أخرى غير التي يعرفها.
بعد نقاش القضايا المتعلّقة بتاريخ الكتاب، يظهر البُعد الهيستوغرافي، وهنا يأخذ الكتاب الصورة الكلاسيكية نفسها لأيّ عملٍ عن تاريخ الكتاب، فيعود إلى عصور بعيدة وحضارات متنوّعة ليرصد كيف تطوّرت مختلف التقنيات التي جعلت صناعة الكتاب ممكنة (الأبجدية، الورق، التجارة...) وكيف نشأ مجتمعٌ محوره الكتاب (كهنة، نَسَخَة، تجّار كتب، مقتنون...). ويلاحظ المؤلّف أنّ للكتاب تاريخاً عَوْلمياً، وهو ما يعني لاحقاً أنّ يوهان غوتنبرغ ليس "معجزة غربية" وإنّما هو عقلٌ صبّت فيه روافد المعرفة التقنية للبشرية جمعاء فأنتج المطبعة الحديثة (نعرف أنّ الطباعة بشكل عام ظهرت في الصين)، وأنّ سياقاتٍ متضافرة أتاحت أن تتحوّل آلته إلى محرّك تاريخي، حين صادفت انتشار الثقافة المقاولاتية تحت سقف تبلوُر الرأسمالية، ولمّا تقاطع كلّ ذلك مع المدّ الاستعماري بات اختراع غوتنبرغ بحجمٍ كوكبيّ.
إلى هنا، ما زلنا في تاريخ الكتاب وحده، فالقول بوجود عملية نشر قبل المطبعة لا يُقال إلّا بصيغة من التجاوز، لأنّ النشر قائم على التفطّن إلى سلطة الكتاب وإلى إمكانية كسر احتكار السُلطة لسلطة الكتاب. بالتالي، فالأمر أشبه بالأسطورة البروميثويوسية، حين جرى تحويل النار من سلطة في خدمة السلطة إلى سلطة تخدم أيّاً كان.
بعبارة أخرى، نحتاج أن نكون في جيل على الأقل بعد غوتنبرغ كي يصبح الناشر ممكناً. ينبغي وجود سوق قد ترسّخت أقدامها بحيث تغري بعض الأفراد على التخصّص في تلك المهنة دور غيرها، كما يحتاج الأمر إلى شروخٍ ثقافية وإثنية وعقائدية كما هو الحال في أوروبا بين كاثوليكيةِ إيطاليا وفرنسا، وبروتستانتيّة ألمانيا وإنكلترا.
حتى إذا بلغنا القرن السادس عشر، وجدنا أنّ كلّ شيء قد تهيّأ ــ في فرنسا وجنوب ألمانيا على الأقلّ ــ للحديث عن تداخل التاريخين: تاريخ الكتاب وتاريخ النشر، وقد أصبح محرّك الحداثة جاهزاً كي يعمل بكلّ طاقته. فبما أن الناشرين هُم سرّاق نار، سوف يميلون إلى تمرير قيَم تقلب السائد (نعرف اليوم أنها قيَم الطبقة البورجوازية التي لن تظهر في الصورة إلّا نهاية القرن الثامن عشر)، وبمنطق السوق سيُخرجون المعرفة من الأبراج العاجية إلى الطريق العام.
في الأثناء، وضعت المطبعة مولوداً جديداً هو الصحافة (القرن السابع عشر)، فمنحت للكتاب أجنحة جديدة وغذّته بالأفكار النشيطة. حدث ذلك، كما يفسّر سورديه، بفعل تجاور مجتمعَيْ الكتاب والنشر من جهة، ومجتمع الصحافة من أخرى، إذ يجتمعان في فضاء واحد هو المطابع، بما كان يخدمهما معاً. ويرى المؤلّف أن الصحافة وضعت تحت أيدي الناشرين عناصر يمكنهم تركيبها بسهولة ليصنعوا ربيعهم.
يلاحظ سورديه، برشاقة، أنّ الكتاب ــ منذ غوتنبرغ إلى ظهور الصحافة ــ عاش مرحلة يسمّيها "من نهاية قداسة الكتاب إلى انبعاثها"، حيث خلقت الصحافة شكلاً جديداً من القداسة مبنيّاً على نجاحات السوق، ومن ثمّ أوحت بأفكار مثل اختراع سلاسل الكتب (شيء بين الكتاب والجريدة)، وصولاً إلى كتب الجيب وقوائم "الأكثر مبيعاً" في القرن العشرين، وقبل ذلك ظهور مفهوم "الكلاسيكيات" في القرن 19، فحوّلت شكسبير إلى قدّيس جديد، وقد يحدث ذلك مع كاتب حيّ مثل فيكتور هيغو.
يتحرّك هذا التاريخ، كما يلفت المؤلّف، ضمن الوعي العام للناشرين. كانوا هم - لمصالح تسويقية - مَن جعلوا عنصراً بارزاً في العالم ،لا يمكن أن نتخيل الدنيا من دونه، مثله مثل الحجارة والنبات والكائنات البشرية. وهم أيضاً واجهة أزمات الكتاب، إذ يُلاحظ مثلاً عودة الناشر الحِرفيّ بعد قرون، زمنَ الكتاب الإلكتروني، حيث يستشعر الناشرون مناطق للتوسّع.
في قراءة لراهن تاريخ الكتاب والنشر، يرى سورديه أن الناشرين الذين يستوعبون حقائق عصرنا، عصر المعلومات، هم مَن سيقودون سفينة تاريخ الكتاب. فضاء الكتاب اليوم عبارةٌ عن قشرة تقف على ماغما من المعرفة المتضخّمة والمتدفّقة، وقد أصبح دور الناشر هو الانتقاء ضمن سؤال/مسؤولية: ما الذي ينبغي أن يبقى عبر الزمن؟
بشكل عام، يعتبر يان سورديه أنّ الفضاء الاجتماعي للنشر قد تأقلم مع قوانين عصر المعلومات، فهو يلاحظ ازدياد تقسيم العمل وتفكّك مهنة الناشر بين صناعة وترويج وعلاقات عامّة وتحقيق وإدارة للمؤلّفين، كما يرى ابتكار حلول لتضخّم الإنتاج الكتابيّ ومراعاة المقتضيات البيئية.
قضايا لا نجدها مطروحةً في مجال النشر العربي، حيث لا نزال نسمع عن تعطيلات التوزيع وسوء ترتيب روزنامة المعارض وعزوف القرّاء والتُّهم المتبادلة بين الكتّاب والناشرين. يُخبرنا يان سورديه أنّنا نسكن عالماً محكوماً بقواعد لعبة عصر المعلومات، ولا يبدو أنّنا نعيش فيه. بهذا المعنى، تبدو الثقافة العربية خارج "تاريخ الكتاب والنشر" اليوم.