تقتصر الأحداث الفنّية في بلد مثل تركيا على مدينة مركزية واحدة في الغالب، ألا وهي إسطنبول، لكنّ البلد في العقود الماضية شهد ظهور اتجاهٍ جديد، حيثُ يبذل فنّانون ومؤسّسات وقيّمون ثقافيون مجهودات في سبيل إيصال الفن المعاصر إلى المُدن الصغيرة، بل إلى الأرياف أيضاً، ومخاطبة الجمهور المحلّي في الوقت الذي يُستقطب فيه الزوّار من الخارج.
وعلى خُطى مدن كسينوب (2006)، وماردين وكانالكي (2010)، انطلقت فعاليات الدورة الأولى من "بينالي كوماجين" في 20 آب/ أغسطس الماضي، وتستمرّ إلى 20 تشرين الأول/ أكتوبر المُقبل، تحت عنوان "حضارة متخيّلة".
في بلدة وقلعة قحطا (Kahta) الواقعة في محافظة أديامان جنوب وسط تركيا، في الشرق الأقصى من إسطنبول، لكنّها طالما كانت مهداً لحضارات مختلفة، أبرزها حضارة كوماجين القديمة التي أخذ البينالي اسمه منها. يشارك في التظاهرة 53 فنّاناً من أكثر من 20 دولةً، ويبدو أنّ اختيارات المنسّقين تنحو إلى "فن الأرض" (الفن البيئي)، وهم محقّون في ذلك، فالمناظر الطبيعية خلّابة حقّاً. وصحيح أنّ خلق مشاركة ما بين الأعمال الفنّية ومكان كهذا لا يخلو من الصعوبة، إلّا أنّ المواضيع التي تدور حولها الأعمال، إلى جانب أنّها أُنتجَت محلّياً، أمرٌ يذلّل تلك التحدّيات.
يتوزّع البينالي على خمسة مواقع أثرية: تِملس القديمة التي كانت تابعة لمملكة كوماجين، وأطلال أرسيميا حيث المقرّ الملكي، وجسر سيفيران الذي يعود إلى أواخر العصر الروماني حوالى عام 200 للميلاد، وقلعة قحطا (Kahta)، القديمة (التي أُعيد افتتاحُها بعد 17 عاماً من الترميم)، والجُزر الصغيرة عند سدّ أتاتورك المبني على نهر الفرات، حيث تقع الآن إحدى مدن العصرالحجري الحديث تحت الماء.
يتطلّب الانتقال بين مواقع البينالي جولة خاصة أو مرشداً، فالمشي غير ممكن، ولا توجد وسائط نقل عام أو خدمات عمومية، لكنّ معظم هذه الأمكنة موجود فعلاً على خريطة المناطق السياحية.
استُوحيت فكرة التظاهرة من قصص لوقيان السميساطي الخيالية
استُوحيَت فكرة البينالي من تخيّل حضارة جديدة على مقربة من نيفالي كوري، وهي مستوطنة مبكّرة من العصر الحجري الحديث، وموطن لأقدم معبد معروف في العالم (8400 ق.م) ولكنها اليوم تحت الماء بسبب بناء السدود على الفرات.
أسّس نهاد أوزدال البينالي، منذ وقت قصير، بعد أن استوحاه من أحد مفضّلاته الأدبية "قصص لوقيان السميساطي" المعروف بأنه كتب أولى قصص الخيال العلمي في التاريخ. في إحدى قصصه ينتهي المطاف بلوقيان وصحبِه على القمر والانخراط في شؤون تلك الحضارة ثم العودة إلى الأرض والهبوط على الجزيرة. واستقرّ أوزدال، وهو شاعر حاصل على عدد من الجوائز، على فكرته هذه من خلال تلك الرحلات بين الماضي والمستقبل.
بالإضافة إلى ما سبق، أُعلنَ انضمام فعاليات فنّية جديدة إلى البينالي، وورشات طبخ وحفلات فنّية، الأمر الذي يُثري البرنامج. ورغم بعض التقصيرات والمصاعب في التنظيم، فإنّه يقدّم تجربة فريدة ولا تُنسى، جامعاً ما بين طبيعة ساحرة وتاريخ مذهل وأعمال للفن المعاصر، ما يجعل السفر إليه أمراً مُستحقّاً. إنّه حدث فنّي واعد قد يصبح أكثر الأحداث إثارة للاهتمام في منطقتنا، إذا ما ارتقى إلى مستوى الطموحات.