ليس كتاب "بالفن أحيا" لمارون الحكيم كتاباً عادياً. إنه أشبه ببيت. إذ لا ندخل فيه إلى فن مارون الحكيم (1950)، ولنقُلْ فنونه، فقط، بل إلى حياته أيضاً، وهذه تتّسع لقرّائه. إذ يشعر قارئ مثلي، لم يلتقِ مارون الحكيم، ولم يحضر أيّاً من معارضه، أن الفنان اللبناني يستضيفه في هذا الكتاب، وأنه يغدو، على نحوٍ ما، في الزّمرة التي يشملها الكتاب.
مطالعة كتاب مثل "بالفن أحيا"، يحوي قرابة 660 صفحة مصقولة، هي أيضاً فرصة لمتابعة الحكيم منذ كان في قريته ومنزله العائلي وأسرته المعمرجيّة، إلى أن بدأت صلته بالفن نحتاً وتصويراً، مروراً بتكوينه الأكاديمي ومساره الاحترافي، معرضاً خلف معرض. خلال ذلك نقع على بيئة الحكيم وأسرته بالأسماء والصور الفوتوغرافية، ونشاهد ما أحسب أنه عمله الفنّي كله. نقرأ على هامش ذلك ما كتبه عنه عقل العويط ومي منسى وجوزيف أبو رزق وسمير الصايغ وفيصل سلطان وغازي قهوجي ويقظان التقي ومحمد شرف وفاروق يوسف. ليس هذا وحده، فنحن من خلال الكتاب نتعرّف إلى زفاف مارون وخطبة ابنه الأصغر، ونقرأ ما كتبه كثيرون بخطّهم على أوتوغرافه الفني، بل نشاهد بورتريهات لمارون رسمها أصحابه وتلامذته. إنها كلّ العناوين التي تتوزّع سيرة الحكيم وحياته وعائلته ومجتمعه، فلا غضاضة من القول إن هذا الكتاب بيتٌ آخر للفنان، يستضيف فيه قرّاءه، وإننا أمام كلّ مارون الحكيم، كلّ فنّه وكلّ مساره وسيرته.
نحن في هذا الكتاب أمام كلّ مارون الحكيم، كلّ فنه ومساره
مارون الحكيم نحّات كما أُثِر عنه، لكنّ الكتاب يقدّمه أكثر من ذلك. إنه أيضاً رسّام، ليس رسّاماً لِما يمكن اعتباره تصاميمَ للنحت كما هي حال عدد من النحّاتين: منى السعودي مثلاً. إنه رسّام بصورة موازية للنحّات، رسّام بقدر ما هو نحّات، بل نحن لا نجد في مائيّاته وغير مائيّاته (أكريليك أو غواش وسوى ذلك) ما يجاور منحوتاته أويقابلها. لوحاته بهذا المعنى بعيدة عن منحوتاته، كأنّ الذي صنعها شخص آخر، كأنّ للنحات مساراً مختلفاً عن مسار الرسّام. هكذا يمكننا أن نجد لنحت الحكيم أدواراً ومحطّات ترتدّ إلى تاريخ النحت الحديث وتيّاراته وأدواته ومدارسه، بصورة مستقلّة عن لوحاته التي تعود إلى مصادر أخرى في تاريخ التصوير واتّجاهاته ومدارسه.
يمكن القول لذلك إن النحّات في فن مارون الحكيم يواصل عمارةً في ميدان النحت، هي غير عمارته في ميدان التصوير. لعلّ هذا ما يجعلنا لا نكتفي باعتبار مارون الحكيم نحّاتاً، بل قد يقودنا ذلك إلى إيثار التصوير على النحت، أو مساواتهما. القارئ أو المتلقّي، في هذه الحال، قد يوازن بين الرسم والنحت في فن الحكيم، وقد يعتبره نحّاتاً أو رسّاماً بحسب ذوقه. المهمّ في هذا الباب أن الحكيم رسّامٌ أيضاً، ورسّام بقامة النحّات الذي كانه.
يتاح لقارئ "بالفن أحيا" أن يُشاهد مائيّاتٍ تجذبه، بالدرجة الأولى، بقدرتها على معالجة اللون المائي، بقدرتها على توظيف إمكانات هذا اللون واحتمالاته. الفنّان هكذا يحوّل اللون المائي إلى لعبته التي يستطيع أن يصل بها إلى حدّ الرقص والإيقاع والموسيقى. النحّات القادر على أن يستنبط قدرات وإمكانات الحجر والخشب والمعدن، هو بذات القدرة على استنباط داخل اللون المائي والأكريليك والغواش والزيت. إنه لاعب ماهر حين نرى مسحات اللون المائيّ تتناغم على اللوحة، كما نجد أنفسنا أمام قدرة موازية على تحريك الأكريليك والغواش، والبناء منهما للوحة قادرة أحياناً على أسْر مشاعرنا وحواسنا.
على كلّ حال، لم يكن الحكيم متجاهلاً لهذه الموازاة بين الرسم والنحت، فهو يسعى جاهداً لأن يزاوج بينهما. اللوحة المحفورة والقماشة المنحوتة هما من نتائج هذا التزاوج. في هذا التزاوج نقع على لون من لوحة كاملة، إذ إن الحكيم لا يجمع بين النحت واللوحة فقط، لكنه يضيف إليهما أشياء من الخارج، ربطات عنق مثلاً. هكذا نجد أنفسنا أيضاً أمام "بوب" منحوت. لوحة الحكيم ذات إرث عالمي؛ هنا نحن في مجال الفنّ اللبناني الذي يستلهم الموجات العالمية ويبني بإزائها.
هكذا نحن أمام تجريد غنائي وتجريد تعبيري، بل وأمام لوحة شطرنجية بإلهام موندرياني. سيكون نحت الحكيم هو أيضاً كلّ النحت الحديث، التجريديّ بخاصّة. هكذا نقع على الإرث العالمي لهذا النحت. بعض منحوتات الحكيم تذكّر من بعيد بمنحوتات هانس آرب، لكنّنا قد نتذكّر أيضاً نحّاتين آخرين كثيرين تجريديين، مترانف على سبيل المثال. حين نتكلّم عن تعدّد الأساليب في فن الحكيم فإننا نعني هذا. لا نجد هنا فنّاناً واحداً، بل نجد تيّاراً أو موجة أو إرثاً عالمياً كاملاً. هذا لا يعني أننا أمام تقليد. نحن أمام أعمال في موازاة، ومن داخل، هذا الإرث. أعمال فيها درجة من الابتكار والتكامل. درجة موازية من الإحكام والمسحة الشخصية.
ما دمنا في كتاب الحكيم، فإننا هنا نقع على خاصيّة ثالثة لديه، إنها، إلى جانب النحّات والمصور، الكاتب. يكتب الحكيم عن الفن، وعن رؤيته الخاصّة فيه، فنجد هكذا "حكيمَ" آخر، "حكيمَ" ثالثاً.
* شاعر وروائي من لبنان