"الخط الأبيض من الليل" لخالد النصر الله: كابوس اسمه البيروقراطية

26 سبتمبر 2021
خالد النصر الله
+ الخط -

لا نجد في رواية الكويتي خالد النصر الله الصادرة عن "دار الساقي" اللبنانية ما يتّصل بعنوانها، "الخطّ الأبيض من الليل"، لكنّ أحداثها المتلاحقة المتراكمة لا تكاد تتواصل وتنبني في رواية واحدة. لنقُلْ إن رواية النصر الله تستدعي ما يمكن أن يكون تجارب في اتّجاهات عدة، بل روايات شتى. إنها على ذلك مكتظّة بعدد من الروايات التي كُتبت غالباً ببراعة لافتة وقدرة أدبية لا نفهم كيف جنح النصر الله، مع تملُّكهما، إلى هذا التعدُّد، الذي يصل إلى المراكمة والاكتظاظ.

هناك أوّلاً رواية المدقّق بأصلها الكافكاوي، المدقّق الذي يعمل في مؤسّسة حكومية بكلّ جوّها البيروقراطي، والذي يدعوه ذنبٌ غامض يقترب من عقدة الذنب الكافكاوية، إلى أن يهجر وظيفته ويهرب إلى نفق يشبه ما كان يعرض له في كوابيسه، وأن يُستدعى إلى محاكمة تذكّر، من بعيد، بمحاكمة كافكا. من الجانب الآخر، هناك قصّة الرقابة التي تعود إلى أقسى ممّا كانت بعد رفعها لعامين، والتي تشكّل خلفية غامضة لعقدة الذنب لدى المدقّق، والرقابة هذه تستدعي مقاومة من الكتّاب واللجوء الى مكتبات أرضية، ما يجعلنا قريبين من السياسة ومعارك الحرّيات.

هناك أيضاً الرواية التي يكتبها المدقّق والتي تدور حول هيام بكُتب الأطفال يبقى لديه في شبابه. هيام يجعله يحتفظ بمكتبة كاملة من هذه الكتب. هذا ما يستفزّ شخصاً ـــ هو شيطان المكتبات ـــ وهوسه بإحراق هذا النوع من الكتب، فيطارد صاحب المكتبة مطاردة تدور أيضاً في غموض. قد نجد علاقة ما بين عمل المدقّق والمطبعة التي ورثها عن أبيه، وقيامه بالاحتيال على الرقابة التي يعمل فيها، لكنّنا لا نجد صلة بينه وبين شيطان المكتبات، الذي لا نعرف إن كان حقيقياً أو مجرّد هلوسة.

عُقدة ذنب ومُحاكمة تذكّران من بعيد بأجواء كافكاوية 

مع ذلك، فإن هذا الحشد لا يخفي فقط تضلُّعاً من الكتابة، بل ومن السرد، منذ أن نبدأ القراءة. صحيح أن شخصيات الرواية جميعها غامضة وغير متكاملة. ليس المدقّق فحسب هو هذه الشخصية التي تُزاوج بين الوقائع الباردة للعمل في مؤسّسة حكومية بكل روتينها وبيروقراطيتها، وبين حياة أخرى كابوسية، بل هي في جانب منها تكاد تنبع من كوابيس صاحبها، فحين يهرب المدقّق، يهرب إلى نفق قريب جدّاً ممّا كان يُبصره في كوابيسه، بل هو يكاد يتطابق مع رؤيا من هذه الرؤى.

ليس المدقّق وحده هذه الشخصية، بل هناك إلى جانبه شخصيات، إن كانت أكثر واقعية، إلا أنها تبدو وكأنها تلتحق بشخصية المدقّق العائمة في التذنيب والهلوسة. شخصية "المهذّب" الذي يجمع كتب الأطفال ويخضع لملاحقة شيطان الكتب، يكاد يكون استكمالاً لشخصية المدقّق.

غلاف

ثم إن الشخصيات الأخرى ليست في غالبها سوى إضافات سريعة إلى شخصية المدقّق، أخته وحبيبته المختفية وأمه. ربما وقفنا قليلاً عند شخصية المسؤول البيروقراطي الذي يمثّل السلطة، لكن هذه الشخصية، في ما عدا موقعها، ليس لها حكاية، وليس لها أكثر من وظيفتها ورمزيتها الصادرة عنها. تكاد الرواية لذلك تكون رواية المدقّق التي تنبني حكايته على ما يكاد يكون "محاكمة". هنا لا يسعنا إلا أن ندلّ على براعة النصر الله، إذ إن هذا المزج بين البيروقراطية والسلطة والتذنيب الهذياني والهلوسة الإدارية، كلّ ذلك مكتوب بقدرة على السرد والتفنّن فيه.

بالتأكيد ليست الرواية المقابِلة، رواية شيطان المكتبات، أقلّ قوّة سردية. بل نحن هنا أمام ما يبدو مستقبَلاً للرواية العربية، وأفقاً جديداً لها. إن خيال هذه الرواية هو بالتأكيد خيالٌ خلّاق، كذلك فإن الفكر الذي ينطوي عليه هذا الخيال هو فكر محبوك بقوّة. مع ذلك فإن الجمع بين الروايتين يبدو، في أحيان، ثقيلاً، بل يبدو وكأنه شطحٌ يذهب أبعد ممّا يجب. 

إننا أمام روايتين لا نعرف إذا كان من الأفضل أن تكون كلّ منهما وحدها. يمكننا أن نتكلّم عن اكتظاظٍ هنا، مع أننا لا نلاحظ أن هذا يستتبع ضعفاً من أيّ نوع. نظلّ نقرأ منجذبين إلى قوّة السرد والقدرة على التفصيل الحساس والذكي، والخيال شبه الشاعري. إننا هكذا أمام رواية مستقبلية، وليس اكتظاظها الثقيل أحياناً إلا من عواقب تجريب لا نزال، مع ذلك، نشعر بقوّته.


* شاعر وروائي من لبنان

المساهمون