كثيراً ما أثارت تغطية وسائل الإعلام الفرنسية للحَراك الشعبي الجزائري، الذي انطلق في شباط/ فبراير 2019 واستمرّ حتى بعد استقالة الرئيس الراحل عبد العزيز بوتفليقة، استياء وحفيظة السُّلطات الجزائرية التي تعتبرها "منحازةً" و"غير مِهَنية"، وهو استياءٌ لم يقتصر على الجهات الرسمية فحسب، بل شمل في بعض الأحيان الأوساط الشعبية أيضاً.
أحدُ امثلة ذلك هو الفيلم الوثائقي "الجزائر حبيبتي"، الذي عرضته "القناة الخامسة الفرنسية" في آيار/ مايو من العام الماضي، وقدّم شهادات لمجموعةٍ من الشباب الجزائري حول الحراك والديمقراطية، إلى جانب رؤاهُم للمستقبل وآرائهم في قضايا مثل الحريات الشخصية؛ فقد أثار الشريط، الذي أعدّه الصحافي الجزائري الفرنسي مصطفى قسوس، امتعاضاً شعبياً على مواقع التواصُل، بينما استدعت الجزائر سفيرَها في باريس احتجاجاً على ما اعتبرته "تهجُّماً على الشعب الجزائري ومؤسّساته، بما في ذلك الجيش الوطني الشعبي".
تُشكّل تغطية وسائل الإعلام الفرنسية للحَراك موضوع كتاب صدر حديثاً للباحث الجزائري في الأنثروبولوجيا، يزيد بن حونات، عن "الوكالة الوطنية للنشر والإشهار" تحت عنوان "الحراك والدعاية الإعلامية الفرنسية في سياق ما بعد الاستعمار". يتناول العملُ الاهتمامَ الذي يوليه الإعلام الفرنسي للحراك، معتبراً أنَّ ذلك يندرج ضمن "علاقة هيمنة استعمارية تسعى فرنسا لإطالة أمدها".
وبحسب الكتاب، فإنَّ "الدعاية الإعلامية الفرنسية" تسعى إلى "تشويه الواقع الجزائري"، مُشيراً إلى ما يعتبره تناقُضاً في أداء وسائل الإعلام الفرنسية حين تصف الجزائري بأنّه "بلدٌ دكتاتوري تحت حُكم نظام عسكري"، بينما تتجاهل انزلاقات السُّلطات الفرنسية، كما حدث خلال القمع الذي مارسته على حركة "السترات الصفراء".
يُشير الكتاب أيضاً إلى الدعم العسكري الذي حظي به الدكتاتور التشادي إدريس ديبي، الذي رحل مطلع العام الحالي، مِن فرنسا بين سنتَي 2019 و2021، مُعتبراً ذلك وجهاً مِن أوجُه ذلك التناقُض.
مِن جهة أُخرى، يتناول الكتاب الاهتمام الذي توليه الجزائر لما يسمّيه "حروب الجيل الرابع" بما تتضمّنه من محاولاتٍ لـ "التحكُّم في وسائل الإعلام بهدف ضرب استقرار الدول التي لا تخضع لمنطق القوى الكبرى واللوبيّات الاستعمارية الجديدة".
ينطلق الكتابُ مِن اختلالات وتناقُضات الخطاب الإعلامي في فرنسا إزاء الجزائر، وهي نقطةٌ قد يتّفق حولها كثيرٌ مِن المتابعين المتخصّصين وغير المتخصّصين. لكنَّ مشكلةَ العمل الأساسية تكمُن في أنّه يرصُد هذا التناقُض بالمقارنةِ مع أداء وسائل الإعلام الفرنسية في بلدان أُخرى؛ كأنّه يُريد القول: "مِن الأفضل لوسائل الإعلام الفرنسية أن تتجاهَل ما يحدُث في الجزائر، تماماً مثلما تتجاهلُ ما يحدث في بُلدان أُخرى".
يتعاطى الكتابُ، أيضاً، مع وسائل الإعلام في فرنسا باعتبارها "لسان حال" السُّلطات الفرنسية؛ وهي مقاربةٌ، ربما، تحمل مغالطةً واضحة. صحيح أنَّ الإعلام الفرنسي - مثل غيره - لا يخلو مِن الحسابات السياسية والأيديولوجية، لكنّه لا يتبع الحكومة الفرنسية بشكلٍ مباشر كما قد يُوحي به المؤلّف الذي يتبنّى وجهة نظر السُّلطات الجزائرية التي تعتبر أنّ الإعلام الفرنسي بعبّر، بشكل أو بآخر، عن موقف باريس الرسمي.
قد لا يُعبّر الإعلام الفرنسي عن موقف بلاده الرسمي، على الأقلّ حسب ما تفهمه السُّلطات الجزائرية الذي بيّنت في أكثر من مناسبةٍ أنّها ترغب في أنْ تُعبّر الصحافة عن روايتها للأحداث لا غير. وكثيراً ما وجد الصحافيّون المستقلّون عنها أنفسهم في مواجهة التضييق والسجن والاعتقال.
ولعلّ مِن المفيد، هنا، الإشارةُ إلى أنَّ الموقف الرسمي الفرنسي يبدو، في مجمله، مؤيّداً للسُّلطات الجزائرية وللمسار السياسي الذي انتهجته بعد الحَراك الشعبي. يُمكن الاستشهاد بتصريحات إيمانويل ماكرون الكثيرة التي أشاد فيها بالرئيس الجزائري عبد المجيد تبّون، والذي وصفه في أحدها بـ"الشجاع".
ثمّة ملاحظة ثالثة تتعلّق بعدم أخذ المؤلّف مسافةً تُتيح له قراءة الموضوع بشكل أكثر موضوعية؛ فهو يتبنّى وجهة النظر الرسمية الجزائرية حرفياً في كل المسائل التي تطرّق إليها؛ بما فيها الانتخابات الرئاسية التي جرت في 12 كانون الأول/ ديسمبر 2019، والتي يقول – رغم ما أثارته من رفض شعبي قبل وبعد تنظيمها - إنّها "جرت في شفافية تامّة".
واللافت أنَّ هذا التوجُّه الرسمي يتكشّف منذ صفحات الكتاب الأولى؛ فمقدّمته كتبها وزير الاتصال الحالي، عمّار بلحيمر، الذي يتحدّث فيها عن محاولات بعض المنظمات غير الحكومية الأجنبية والهيئات الإعلامية المحسوبة لزعزعة استقرار الجزائر".
أكثر ما يتجاهله الكتاب، في مقابل تحليله للتناوُل الإعلامي الفرنسي للحراك، هو تناوُل وسائل الإعلام الجزائرية للموضوع نفسه. لا يطرح يزيد بن حونات السؤال الأهم: هل كان الإعلام الجزائري، الحكومي منه والخاص، موضوعياً ونزيهاً وصادقاً في تغطيته للحراك الشعبي؟