"إثنولوجيا المكتب": العمل على سلّم زمني كبير

08 أكتوبر 2020
تجهيز لـ آي ويوي، 2013 (Getty)
+ الخط -


عند دراسة علاقات السلطة وكيف يجري فرضها على الإنسان، عادةً ما يشتغل المنظّرون على فترات قصيرة نسبياً مثل فترة حكم زعيم سياسي كهتلر أو ستالين، أو قراءة في تاريخ بلد بعينه على مدى ثلاثة أو أربعة قرون لا أكثر. لكن ماذا لو غيّرنا السلّم الزمني بشكل أكثر حدّة، كأن نعتمد مرحلة تمتد لآلاف السنين؛ فترة زمنية تمسح تاريخ البشرية في مجمله.

ذلك ما فعله عالم الأنثروبولوجيا الفرنسي باسكال ديبي (1949) في عمله الصادر مؤخراً بعنوان "إثنولوجيا المكتب.. تاريخ موجز لبشرية جالسة" (منشورات ميتالييه)، وقد بدا أن تغيير السلّم - والذي يبدو كمجرّد لعبة نظرية - عملاً خطيراً، حيث يكشف ما لا يمكن أن نراه من خلال دراسة التاريخ مجزّأً. 

إذا كان كارل ماركس قد أشار إلى أن تغيّراً في وسائل الإنتاج يعني لاحقاً تغيُّراً في علاقات الإنتاج، وبالتالي تغيراً في كل التركيبة الاجتماعية، فإن ديبي يرى أن عوامل أُخرى أكثر بساطة لا ينتبه إليها المؤرّخون عادةً تؤدّي أيضاً إلى تغيّر في العلاقات الاجتماعية، فيدرس في عمله هذا "الوضعيات الجسدية للعمل"، والتي لا يمكن رؤية تغيُّرها إلا باعتماد سلّم زمني كبير تُقاس وَحَداته بآلاف السنين، وهنا سنجد أنّ الإنسان العامل قد انقلب من كون وضعية الوقوف كانت الشكل الحصري للعمل بين الصيد والزراعة، إلى أزمنة الحداثة التي رسّخت وضعيات الجلوس وباتت مهيمنةً ضمن العمل المكتبي. 

عبر وضعيات العمل، يفسّر تفاوت سرعة الأداء الاقتصادي بين الأمم

هكذا يُظهر ديبي التاريخ البشري مثل انتقال طويل من وضعية العامل الواقف إلى وضعية العامل الجالس. إلى هنا يبدو كتاب الأنثروبولوجي الفرنسي مجرّد وصف للتاريخ البشري بناءً على ملاحظة، غير أنه يذهب إلى تغذية عمله بروح إشكالية حين يتساءل عن العلاقة بين هيمنة وضعيات بعينها وفكرة السلطة.

يرى ديبي، وهذه هي الفكرة الناظمة لكتابه، أنّ تكريس الجلوس في العمل ليس سوى طريقة من طرق الضبط، أي تطوير سلطة التسيير على أدوات التنفيذ. يستعين الباحث الفرنسي بمقولات في علم النفس والعلوم العصبية ليشير إلى أنَّ الإنسان الجالس أكثر خضوعاً من الإنسان الواقف، حيث إن الثاني هو أقرب - ولو رمزياً - إلى مغادرة العمل، وبالتالي رفض سلطة التسيير عليه. 

بهذه التصوُّرات التي يطرحها، يفسّر ديبي مسألة تفاوت سرعة الأداء الاقتصادي بين الأمم، فالحضارات التي تعرف أكثر من غيرها كيف تضبط عمّالها هي التي تتفوّق على غيرها، ثقافياً وعسكرياً. لكن هذا الانتصار لا يحدث بحسب الأنثروبولوجي الفرنسي إلّا على حساب الإنسان ككائن حر.

إثنولوجيا المكتب

هذا الكتاب مغامرة جديدة لديبي، الذي يُعدّ مع باحثين مثل المؤرّخ آلان كوربان وعالم الاجتماع ديدييه فاسين، من أكثر المتجرّئين على الخروج من الأجندات البحثية المكرّسة. من أعماله الأخرى: "القرية التي تغيّر شكلها"، و"فتنة النظر"، و"إثنولوجيا غرفة النوم"، وفي ما عدا الكتاب الأخير لم تُحقّق أعمال ديبي نجاحات جماهيرية على طرافتها ومتانتها، غير أنّ كتاب "إثنولوجيا المكتب" قد يشهد اهتماماً مضاعفاً بسبب جائحة كورونا التي فرضت على الإنسان مزيداً من "الجلوس".

آداب وفنون
التحديثات الحية
المساهمون