ليس صدفةً لغوية أن ترتبط الحضارة بالحاضرات، والتمدّن بالمدن. على العكس من ذلك تماماً؛ تبدو العلاقة بين الحضارة والمدينة علاقةَ ضرورةٍ ولزوم، بمعنى أنّ لا حضارة من دون مدينة، ولا مدينة من دون حضارة. على هذه المقولة يبني المخرج البريطاني تيم لامبرت الجزء الأوّل من سلسلته الوثائقية "أصول الحضارة"، والذي يحمل عنوان "ولادة المدن". سلسلةٌ تعرضها قناة "آرتيو" الثقافية، الفرنسية الألمانية، هذه الأيام، وتشمل أجزاؤها، إضافةً إلى دور المدن في الحضارة، دورَ كلّ من التجارة، والأديان، والحروب.
لا يتأخّر "ولادة المدن" في إخبارنا بمعلومةٍ نعرفها: أن "أولى الحضارات الإنسانية رأت النور في الشرق الأوسط". لكنّ الحديث بصيغة الجمع، هنا، عن الحضارات، سيقودنا إلى تفاصيل أقلّ ذيوعاً ممّا نعرفه، كأنْ يبدأ الشريط من موقع غوبيكلي تيبيه، الواقع جنوب شرق تركيا، قرب الحدود مع سورية، والذي ظهرت فيه الحضارة في زمن "أقدم من أهرامات مصر بمرّتين" بحسب الراوي الصوتي الذي يُرافقنا طيلة الفيلم.
كما في كلّ مرحلة من الشريط، يتقدّم السرد الوثائقي رفقة أحد علماء الآثار، ويجمع بين المشاهد الوثائقية والمقابلات وبين المشاهد التمثيلية التي تقرّب من ذهن المشاهد نمطَ الحياة القديم في هذه المواقع. هنا، يُسنَد الدور إلى العالم الألماني ينس نوتروف، أحد الذين اشتغلوا وأجروا أبحاثاً ميدانية في غوبيكلي تيبيه، وهو، بحسبه، أقدم موقع يقدّم مثالاً على بدء الاجتماع البشري العمراني، قبل نحو 12 ألف عام. يُخبرنا نوتروف بعدد من خلاصات أبحاثه وأبحاث زملائه حول هذا الموقع في العقدين الأخيرين: فهو، بحسبه، أوّل مكان بنته المجتمعات المعروفة بمجتمعات "الصيد والالتقاط"، وذلك من أجل الاحتفال بغنائمهم، وتبادُل المعلومات، وربما، أيضاً، محاولة العثور على شريكة أو شريكة حياة ــ وهي أمورٌ لا يُتيحها، عادةً، نمط الحياة المتنقل.
هذا الابتكار ــ ابتكار مكانٍ ثابت للالتقاء ــ سيقود، بحسب المخرج، إلى خطوة ثانية وأساسية في تاريخ الحضارة: الزراعة. لكنّ الكاميرا لن تنتقل بنا فوراً إلى بلاد الرافدين، بل إلى 30 كيلومتراً بعيداً عن غوبيكلي تيبيه، حيث تقع، بحسب الشريط، أقدم الآثار التي تدلّ على بدء اهتمام الإنسان بالزراعة. الحديث عن موقع أشيكلي هويوك، في تركيا، والذي يضمّ آثاراً تشهد ــ بحسب عالمة الآثار التركية، ميهريبان أوزباساران ــ على اهتمام السكّان بالقمح والحبوب، وعلى قيامهم بتدجين الأغنام والماعز، ضمن نمط حياة مستقرّ نسبياً، أساسُه بيوتٌ دائرية، تقع تحت الأرض بشكل كامل تقريباً، وهي بلا أبواب، حيث تُدخل من كوّة في السقف.
تُعطي حاضرة أور العراقية مثالاً عن أولى الحضارات الناجحة
نمطُ حياة "مدينيّ" جديد على النوع البشريّ، سيترك تأثيراً كبيراً على بنية الناس الجسدية، بحسب برينا هاسيت، عالمة الأحياء في "جامعة لندن"، والتي تُشير إلى "المساوئ" الصحّية التي ستعرفها أجيال أشيكلي هويوك بعد انتقالها من نظام غذائيّ قائم بشكل كبير على البروتينات (اللحوم) إلى نظام أساسه السكّريات. تغيّرٌ لا يتوقّف عند البنية الجسدية: فالمزارعون، المستقرّون نسبياً، لديهم وقتٌ أكبر للإنجاب من مجتمعات الصيد والالتقاط، فهم يُنجبون طفلاً كلّ عامين وسطياً، في حين لا ينجب الصيّادون طفلاً إلّا كلّ أربعة أعوام وسطياً، وهو ما يشرح، بحسب هاسيت، انتشار المزارعين في كلّ أنحاء العالم واختفاء مجتمعات الصيادين تدريجياً.
على أنّ كثرة عدد المجتمعات الزراعية، مقارنةً بتلك التي تقوم على الصيد لن تساهم فقط في اتساع المدن، بل وكذلك في إحدى أساسات الحضارة: التخصّص في العمل. فبدلاً من أن يقوم الشخص الواحد، بنفسه، بالبحث عن الطعام والصيد والطهو، ستمرّ هذه العملية ــ في المجتمعات الزراعية ــ بأكثر من شخص: من الزارع إلى الناقل، إلى العامل في الطهو، إلخ. أمرٌ سيقود، بحسب الشريط، إلى ولادة الفوارق الاجتماعية، وعدم المساواة، وهو ما يُعطي الشريطُ مثالاً عليه بالمجتمع الذي كان يقيم في موقع أرسلان تيبيه، التركي أيضاً، قبل نحو 5500 عام.
ففي هذا المكان، ستقود الفوارق الاجتماعية، واستحواذ نخبة حاكمة على السلطة وعلى الثروة الاقتصادية، إلى واحدة من أولى "الثورات" على الدكتاتورية التي نملك عنها دلائل اليوم ــ دلائل تتمثّل بوجود آثار لحرائق ومعارك في هذا الموقع التركي، بحسب الباحثة مارتشيلا فرانجيبانه. لكنْ، من بين مدن العالم القديم، وحدها مدينة أور السومرية، الواقعة في العراق، ستعطي مثالاً حقيقياً عن الحضارة بالمعنى الذي نعرفه اليوم.
فبعكس المواقع الثلاثة التي يستحضرها الفيلم في بدايته، ستستمرّ الحضارة في أور لعقود طويلة، وستشهد الحاضرة ــ وبلاد الرافدين عموماً ــ عدداً من أهم الابتكارات التي ما زالت البشرية تدين لها بها حتى اليوم، إن كان في الأبجدية واللغة والرياضيات، أو في ابتكارات مثل قنوات الري، والمخازن، والصابون، والإسمنت، والأفران.
يتساءل الشريط عن سبب ظهور الحضارة واستمرارها في هذه المدينة الرافدينية، بعكس الأماكن الأخرى، ويقترح المخرج علينا جوابين: الأوّل يقدّمه عالم الآثار جيف روز، والذي يربط الأمر بوجود عدد مهمّ من السكّان في المدينة خلال ذلك الوقت (65 ألف نسمة)، وتوفُّر غذاء كافٍ ومكان يمكن للناس العيش والسكن فيه. أمّا الجواب الثاني، فتأتي به الآثارية الأميركية إليزابث ستون، والتي تُشير إلى الفرق الكبير في معاملة "العامّة" من الناس بين أور وبين موقع أرسلان تيبيه التركي، الذي كان العامة ممنوعين فيه من مشاركة النخبة في الحكم أو في إدارة شؤون المدينة. أما في أور، فقد كان أغلب الناس من الطبقة الوسطى، بحسبها، ويمكنهم القيام جميعاً بما يقوم به النبلاء من عمليات بيع وشراء وتملّك وغيرها، كما كان يمكن لشخص يولد في عائلة فقيرة أن يُنهي حياته غنيّاً، وهو هامشٌ للحرّية وللعيش المدني لم تكن البشرية قد عرفته من قبل.