مع أن كتاب "في الثقافة المصرية" الصادر في عام 1955، لم يفارق في كل مقالاته النقدية الإطار الذي حدّده العنوان، أي كل ما هو مصري، ثقافة ومجتمعاً وتطورّات سياسية واجتماعية، إلا أن كاتِبَيْ مقالاته، محمود أمين العالم وعبد العظيم أنيس، حسب مقدمه حسين مروة، كانا يخوضان معركة فكرية هي ذاتها معركة كل الكُتّاب العرب بدءاً من العراق فسورية فلبنان وصولاً إلى بلدان المغرب العربي، وكان يعني بذلك الكتّاب "الواقعيين" حسب اصطلاحه.
يلخص مروّة هذه المعركة بالقول إنها معركة "بين ثقافة تنعكس فيها آراء وأفكار ومفاهيم وقيم تسند مصالح فئة من المجتمع يكاد يتلاشى دورها التاريخي وينقضي، وبين ثقافة تنعكس فيها آراء وأفكار ومفاهيم وقيم تريد أن تدل على مكان فئة تلد في المجتمع جديداً لكي تنقل هذا المجتمع إلى دور تاريخي جديد، إلى منزلة أرحب وفضاء أوسع وإنسانية أسمى وحياة أجمل وأفضل". ويضيف مروة، إن مما "يجعل من دراسات هذا الكتاب مرتكزاً لنقد ثقافتنا العربية كلها في سائر البلدان العربية، أن مؤلفَيها أقاما دراساتهما النقدية في الثقافة المصرية على أُسس علمية موضوعية تصلح أن تكون مقياساً دقيقاً لكل محاولة من هذا القبيل لنقد أي ثقافة عربية وأي بلد عربي".
بهذه المقدمة التي تصدّرت الكتاب، يجد القارئ نفسه أمام آفاق أوسع مما يوحي به العنوان للوهلة الأولى. وبالفعل، لم تكن مقالات الكتاب إلا جزءاً من معركة ثقافية تخاض في غالبية البلدان العربية، بل وامتدت إلى الكلمة العربية في المهجر. ولم يأت تقدير صاحب المقدمة عفو الخاطر أو تعبيراً عن رغبة وأمل، بقدر ما جاء ليعكس حقيقة موضوعية تتمثل في أفق أوسع لهذه المعركة الفكرية التي شهدتها الثقافة العربية في مطلع النصف الثاني من القرن العشرين.
ويتخطى محمود أمين العالم حتى هذا الأفق إلى أفق الثقافة الإنسانية منذ مقالته الأولى، من أجل ثقافة مصرية، في تحديده لمعنى الثقافة على الضد من المعنى الذي طرحه الشاعر والناقد الإنكليزي الأميركي ت. س. إليوت في كتابه "نحو تعريف الثقافة" المترجم إلى العربية آنذاك. فيرى أن هذا الكتاب يحدّد معنى الثقافة "بما يتفق وكافة مقوّمات الرجعية من تجميد لحركة الواقع وتجاهل لقوانينه وإغفال لقيم الإنسان وتجريدها تجريداً يخلّ بحقيقتها الحيّة" لماذا؟ لأن إليوت "يقدم قاعدة عامة لتحديد مفهوم كل ثقافة، وهذه القاعدة هي الدين".
ويضيف العالِم: "وأنا إذ أنكر على ت. س. إليوت أن يجعل من الدين أساساً لوحدة الثقافة، فأنا أنكر كذلك كل محاولة لإقامة الثقافة على أساس جامد واحد، سواء أكان هذا الأساس مادياً أو عقيدة روحية. فالقول بالعامل الاقتصادي أو بالواقع الجغرافي أو الجنس أساساً محدداً فريداً للثقافة لا يقل خطأ عن اتخاذ الدين أساساً موحداً لها".
ويحدّد العالم فيكتب: "الثقافة كتعبير فكري أو أدبي أو فني أو كطريقة حياة خاصة، إنما هي في الحقيقة انعكاس للعمل الاجتماعي الذي يبذله شعب من الشعوب بكافة فئاته وطوائفه.. فالأساس الذي تقوم عليه الثقافة إذاً ليس شيئاً جامداً أو عقيدة محددة، وإنما هو عملية لها عناصرها المتفاعلة واتجاهها المتطور".
وتجري بقية مقالات الكتاب، وكلها ذات طابع نقدي، في هذا الاتجاه نحو معارضة مفاهيم شائعة، وتجتهد في إيضاح إن ما تقترحه من دراسة اجتماعية للتعبير الثقافي، وهو لبّ موقف الكاتبين، لا يعني "إهدار قيمته الفنية إن كان تعبيراً أدبياً أو فنياً". بل قد تساعد على تفسير الكثير من المشكلات الفنية المستعصية. وتضرب موقف توفيق الحكيم من الحياة مثلاً، فموقفه هذا هو الذي يحدّد صياغاته الفنية في الحوار الفكري والشخصيات الجامدة غير المتطوّرة التي تزدحم بها مسرحياته.
وكذلك الأمر مع طه حسين الذي يفرغ عدم استيعابه للواقع الحي بتفاصيله المتفاعلة المتطورة، سواء في الريف أو المدينة، صياغته لقصة "دعاء الكروان" من الحركة، ويجعلها أقرب إلى التجريدات النغمية. وهكذا، كما يرى العالم "لا تمس دراسة موقف الفنان أو الأديب من الحياة فنية ما يكتب وما يؤلف أبداً، بل تساعد على الكشف عن كثير من الأسرار الفنية الخافية".
ويواصل عبد العظيم أنيس، من جانبه، تسليط الضوء على مفهوم الأدب الواقعي الذي يدعوان إليه، كمساهمة - كما يقول - في تحديد معنى "الواقعية في الأدب". فيقيم تمييزاً بين كتّاب لا يرون غنى الواقع من حولهم، وكتاب يحتضنون العالم أو المجتمع بنظرة واحدة، مستخدماً الفرنسي فرانسوا مورياك نموذجاً لكاتب يتصف بضيق حقل التجربة البشرية، وفرنسي آخر هو أونوريه دي بلزاك نموذجاً مضاداً. ومن هذا الأفق ينتقل إلى أدباء مصريين مثل إحسان عبد القدوس الذي يلتقط أبطاله من أماكن "مملوءة بالأرواح الميتة" على حد تعبير أنيس، ولا يرى مصر الأخرى "التي يعيش فيها ملايين من العمال والفلاحين والطلبة والموظفين".
ثم ترد ثلاث مقالات كانت تعبّر عن معركة أدبية خاضها الكاتبان مع كل من طه حسين وعباس محمود العقاد على صفحات الصحف بدأت بردٍّ على مقالة للأول عنوانها "الأدب ومادته"، تهدم أسس نظرة المدرسة النقدية القديمة التي يمثلها طه حسين والعقاد، التي أشاعت "فهماً قاصراً للعلاقة بين صورة الأدب ومادته" واتهمت المقالات الثلاث أدب هذه المدرسة بالجمود "والانفصال عن حركة الحياة"، وحددت موقفها منها. وانتقل الكاتبان من نقد رواية لإبراهيم المازني ومسرحية لتوفيق الحكيم، إلى نقد للمذهب الوجودي كما عبّر عنه عبد الرحمن بدوي، وفنّدا ما يراه من أن حرية الفرد تنتفي "لو انتقلت الذات الفردة من حال العزلة إلى حال الاتصال، الاتصال بالغير" وقوله "ولهذا فإن أقل الناس حرية هم أكثرهم ارتباطاً بالناس وبالأشياء، وأكبرهم حرية أقلهم ارتباطاً بالغير".
وتحتل مقالة محمود أمين العالم، "الشعر المصري الحديث: خصائصه واتجاهاته"، مكانة متميزة بوصفها دراسة تطبيقية، تصنف الشعر هناك إلى ثلاثة تيارات من حيث المبدأ سبقت تيار الشعر الجديد الرابع الذي تنامى بعد الحرب العالمية الثانية. أولها تيار شعراء يتناولون القضايا العامة، الوطنية والاجتماعية، "في إطار الفلسفة الخاصة للطبقة الحاكمة آنذاك"، ازدهر في أواخر القرن التاسع عشر، وتميّز بصياغة تعبيرية تقليدية جامدة وتقريرية وانعدام التجربة الشخصية، مثل شوقي وحافظ ومحرم، وثانيها تيار حاول التخلص من القضايا العامة والانصراف إلى التجارب الذاتية والشخصية، ومن أسمائه شكري والمازني والعقاد وأبو شادي، وهذا الأخير انفرد بتأسيس مدرسة شعرية "أبولو" إلا أنها لم تتابع دعوته إلى القيم الإنسانية العامة، بل "انبثق عنها تيار ثالث.. عبّر تعبيراً تاماً عن إرادة السلطة الحاكمة؛ انفصال الشاعر عن المجتمع، عن القضية العامة، انفصالاً كاملاً".
في المقالة الأخيرة، تناول عبد العظيم أنيس الرواية المصرية، واعتنى بدراسة عدد من الروايات دراسة تطبيقية ركز فيها على نجيب محفوظ بوصفه روائي الطبقة البرجوازية الصغيرة الذي يسجّل مأساتها ولا يرى أبعد منها، كما درس رواية "الأرض" لعبد الرحمن الشرقاوي، وهي رواية رأى فيها "وثبة في عالم الرواية المصرية الحديثة".
يجدر التنويه أن الكاتبين نشرا مراجعة لكتابهما هذا بعد ما يقارب ثلاثين عاماً على صدوره أشارا فيها إلى أنهما ما زالا يريان "أن الجوهر الفكري والمعرفي للكتاب ما يزال صحيحاً من الناحية النظرية العامة الخالصة" فلم تتغيّر وجهة نظرهما إلى الدلالة الاجتماعية العامة للعمل الأدبي، ولا إلى العلاقة العضوية البنيوية بين الصياغة والمضمون، بين القيمة الإبداعية الجمالية والدلالة المعرفية. إلا أنها أقرّا بأنهما "في الكثير من تطبيقاتهما النقدية كانت العناية بالدلالة الاجتماعية والوطنية للعمل تغلب على العناية بالقيمة الجمالية"، واعترفا أن هذا ليس بسبب حدة المعارك الوطنية والاجتماعية فقط، بل وبسبب "عدم امتلاكنا للوسائل والآليات الإجرائية لتحديد وكشف العلاقة بين الصياغة والمضمون، بين القيمة الجمالية والدلالة العامة كشفاً موضوعياً دقيقاً".