"فلنحرر الفنون!": ترسبات استعمارية في الداخل

28 مايو 2019
(من معرض لـ قادر عطية في بازل، ميشيل تانتوسي)
+ الخط -

يعاني عالم الفنون في فرنسا من العنصرية، ويعود ذلك إلى إرث الإمبراطورية الفرنسية ولها تاريخ طويل من الاستعمار واستعباد البلدان الجنوبية. في السنوات الأخيرة، صدرت كتبٌ عديدة تنتمي إلى الفكر المضاد للاستعمار، وتحاول أن تفكك التمثّلات والسلوكات والممارسات التمييزية التي يعيشها الكتّاب والمسرحيون والممثلون والمخرجون ومديرو المؤسسات الثقافية ذوو الأصول المغاربية والأفريقية، نذكر منها كتاب "سوداء ليست مهنتي" لمجموعة من الفنانات والممثلات السوداوات والخلاسيات اللواتي فضحن العنصرية المتجذرة في الوسط السينمائي والمسرحي الفرنسي، وكتاب سلوى بولبينة "المرايا المتشرّدة أو التحرر من استعمار المعارف".

ضمن هذا السياق، صدر كتاب "فلنحرر الفنون!" تحت إشراف فرنسواز فرجيس (لارينيون) وجيرتي دامبوري (غوادلوب) وليلى كوكيرمان (جزر الأنتيل) عن منشورات "لارش"، وهو كتاب ساهم فيه خمسة عشر مبدعاً ومبدعة من مختلف المجالات كالسينما والمسرح والفنون التشكيلية منهم: الفنان الجزائري الفرنسي قادر عطية، والممثل والمخرج المسرحي الغوادلوبي جليل لوكلير، والمخرجة أماندين غاي، والراقصة والرسامة المارتينيكية ساندرا سانت روز، والروائية والمخرجة إيفا دومبا، والبروكينابي حسن كاسي كوياتي، والممثل المسرحي أتيوم بالمارتينيك (...) كما نجد وجوهاً شابة تنتمي لنفس المجالات أو إلى أخرى حديثة مثل فنون الشارع والراب ككريمة الخراز، ودي دو كابال، وأولفييه ماربوف، ومريم ضو، وساندرا سانت روز فانشين.

هكذا فالكتاب ثمرة حركية معرفية ومدنية جديدة في فرنسا، جاء نتيجة تفكير جماعي ونقدي وسياسي من الأقليات التي تعاني التهميش والاحتقار من بنيات ذهنية استعمارية ما زال لها تأثير كبير في المؤسسات العمومية والثقافية الفرنسية. وهذا النقد قادته جمعية "فلنحرر الفنون" التي أسستها نخبة من الفنانين والمفكرين والفنانين الذين يشتغلون في مجال الثقافة والفن، وهم المساهمون الرئيسيون في هذا الكتاب.

بيد أن هذا التفكير ليس معزولاً في فرنسا اليوم، بل يساهم فيه أبرز المبدعين المنتمين إلى أجيال الهجرة وإلى المثقفين الفرنسيين المدافعين عن فكر نقدي لتفكيك التاريخ الإمبراطوري لبلادهم. نقرأ في مقدمة الكتاب أن من أهداف جمعية "فلنحرر الفنون!": "تشخيص أسباب الغياب والنسيان والإقصاء في تمثل المبدعين ذوي الأصول المغاربية والأفريقية على مستوى أشكال السرد التاريخي والتكوين في المؤسسات الفنية والثقافية والسينما والمسرح والرقص والفنون الحية والمتاحف. فقد لاحظنا أن هذه الفئة نجدها غالباً في مهام الحراسة والأمن الخاص ومهن التنظيف، وأحياناً الوظائف التقنية، بينما تستبعد من مناصب المسؤولية والإدارة والإخراج والبرمجة الثقافية".

وتنطلق مساهمة الفنانين والكتّاب في هذا العمل من ثلاثة أسئلة محورية طُرحت عليهم هي: "كيف يتصوّرون الممارسة المضادة للاستعمار من مجالاتهم الفنية؟ هل يعتبرون أنفسهم عرضة للميز باعتبار أصولهم المغاربية والأفريقية؟ ثم هل يرون أن مقاربتهم المضادة للاستعمار يمكن أن تغيّر المركزية "الكونية" التي تتحكم في الثقافة الفرنسية؟

تتعدد الأجوبة على هذه الأسئلة لاعتبارات عدة منها خصوصية كل مجال فني يعمل فيه المتدخل. فمثلاً يحلّل قادر عطية المسألة انطلاقاً من المكوّن التاريخي والمعرفي، فيكتب: "يلعب الاستعمار دوراً رئيساً في هذه الوضعية حيث تهيمن تاريخياً اللاعدالة الثقافية والاقتصادية، إذ رغم استقلال المستعمرات القديمة، فإن القوة الاستعمارية ما زالت مستمرة فيها بنوعين من التحكم: التحكم الصناعي والتكنولوجي (الإسمنت المسلح والزجاج والمعادن...).

وفي هذا السياق، فرضت على البلدان المستقلة تقنيات قضت تماماً على التقنيات التقليدية ودمرت الزوايا، في حالة الجزائر مثلاً، التي كانت تحافظ على هذه التقاليد بدعوى أنها كانت حيّزاً مميزاً للمقاومة". ومن هذه الزاوية يعتقد هذا الفنان التشكيلي أن تفكيك الاستعمار يجب أن ينصبّ على تفكيك بنيات المتخيّل لابتكار رؤية جديدة للعالم انطلاقاً من ثقافاتنا. فالفرنسيون من أصول أفريقية يجدون مكانهم بنيوياً في الرياضة والترفيه، بينما يُستبعدون دائماً حينما يتعلق الأمر بالأدب والفكر والفنون.

أما مغنية الأوبرا، دايا دوريمل، والتي تنتمي لثلاث مجموعات موسيقية بارزة في فرنسا هي: "المجموعة المهنية لإذاعة فرنسا" و"الجوق الوطني الفرنسي" و"الأوركسترا الفيلهارمونية"، فتشدّد على الغياب الكبير للفرنسيين من أصول مغاربية وأفريقية في الغناء الأوبرالي وقيادة الأوركسترات، إذ يكرّس المتخيل الغربي فكرة أن هذه الوظائف من اختصاص الفرنسيين البيض، لأن السود والمغاربيين ينتمون ذهنياً إلى الأهالي البدائيين الذين لم يرقَ ذوقهم بعد إلى مستوى الموسيقى الكلاسيكية.

تقول دوريمل: "دون لعب دور الضحية، يمكنني أن أقدّم شهادتي عن المسكوت عنه وعن الشروط الاجتماعية والثقافية الضمنية التي تستبعد الفرنسيين من أصول مغاربية وأفريقية من هذا الفن. فمن المؤكد أن الموسيقى الكلاسيكية ابتكرها الغرب، ومن المؤكد أيضاً أن البيض من الطبقة الغنية هم الذين أبدعوا في أصناف هذه الموسيقى. لكن لتصل الموسيقى نفسها إلى الجميع يجب تغيير العقليات". وتضيف: "لقد تدهورت الوضعية أكثر اليوم رغم القوانين والمساعدات الاجتماعية، لأن الطبقات الكادحة عينها اقتنعت بأن هذه الموسيقى موجهة للأغنياء البيض فقط".

إن اقتناع الطبقات الكادحة المغاربية والإفريقية الأصل بدونتيها يعود أساساً إلى القيم والأفكار التي ترسخها المدرسة الفرنسية في عقول الأجيال المهاجرة. وهذا المعطى هو الذي تتناوله الفنانة مريم ضو في مداخلتها حين تجيب من يسألها عن أصولها أنها من أصول "متواضعة ومستعمرة". فبالنسبة لها يعود المشكل إلى المدرسة ذات الخلفية الاستعمارية، ففرنسا لا تزال تتجاهل التعدد المكوّن لها وتفرض سرداً وحيداً للتاريخ تكون فيه هي المركز الحاكم. وهكذا فالطفل من أصول مهاجرة يحكم عليه في المدرسة أن يتخلّى عن كل ما يمتّ إلى ثقافته بصلة. تضيف ضو: "يقتصر حالياً المسار الفني في المدارس الوطنية العليا والفنون الديكورية على من هم أصلاً من أبناء النخب، أما البقية فقد لا يصلون حتى إلى البكالوريا".

علاوة على مداخلات ستة عشر مبدعاً، يُختتم الكتاب بثلاثة نصوص تحليلية مهمة للمشرفات عليه. تتناول ليلى كوكيرمان في نصّها التهميش الممنهج للفرنسيين من أصول مغاربية وأفريقية في المسرح والرقص الفنّي لكونهم ينتمون إلى ثقافات تعتبر "شعبية" و"شفوية" وبالتالي فهي لا ترقى إلى الثقافة الغربية العالِمة والمعقلنة والمبدعة، تكتب في هذا السياق: "كأن الإبداع لا يخصّ الفنانين من أصول مغاربية وأفريقية، فيجري بخس أعمالهم من جهة الجودة الفنية. فكما يقال أن الأسوَد طفل كبير، فالفنانون المعنيون هنا ما زالوا في مرحلة طفولة الفن".

من زاوية أخرى، تحلل جيرتي دامبوري الإرث الذهني والتخييلي الاستعماري الذي ينمط طريقة التفكير كلما تعلق الأمر بالفنانين ذوي الأصول المهاجرة أو الذين ينتمون إلى أقاليم فرنسا ما وراء البحار. فهذه التصوّرات المتوارثة في بنيات المؤسسات العمومية الفرنسية تعتبر دائماً أن السود والعرب وُجدوا في الحياة ليشغلوا المناصب الدنيا. تقول: "واقع الحال أن هذه الطبقة في المجتمع الفرنسي لا تنتمي إليه أو بالأحرى لا ينظر إليها كجزء منه، بل إن متخيَّل هذا المجتمع نفسه قد طوّر فكرة رسّخ بها دونية هؤلاء الفرنسيين الأجانب".

أما فرنسواز فرجيس فتعيد قراءة مفهوم تصفية الاستعمار وتقترح بعض الحلول العملية للتقدم في معركة تفكيك التاريخ الاستعماري الفرنسي، إذ كتبت: "تعني تصفية الاستعمار تعلّم النظر بطريقة جديدة إلى العالم، طريقة عرضية وتقاطعية بقصد تفكيك التعريف "الطبيعي" للعالم الذي نعيش فيه والذي يصنعه الإنسان والأنظمة السياسية والاقتصادية (...). وهكذا تظهر خرائطية جديدة تسائل السرد الأوروبي والجهوية والعولمة من منظور لا يخضع لمنطق الشمال والجنوب".

وتضيف ضمن مقترحات لبرنامج عملي لتحرير الفنون من الاستعمار: "يجب تدريس التاريخ الاستعماري لفرنسا في مدارس الفنون الجميلة، (وفي المدرسة عموماً)، وبلورة برنامج عملي للتأثير على المؤسسات الفنية والثقافية والسينمائية والإعلامية، ومراجعة منظومة المتاحف، ثم خلق فضاءات دائمة للتفكير النقدي لتكملة مسلسل التحرر من الاستعمار".

هكذا يضيء كتاب "فلنحرر الفنون!" من زوايا متعدّدة حقيقة خطرة وهي أن الفرنسيين من أصول مغاربية وأفريقية لم يخرجوا إلى يومنا هذا من الاستعمار الذي ما زال يقمعهم في خيالهم وثقافتهم وحياتهم ومساراتهم المهنية رغم خطاب التعدد وإدماج النموذج الجمهوري العلماني السائد لكلّ مكونات المجتمع الفرنسي في منأى عن العرق والدين والهوية. إن فرنسا اليوم في حاجة أكثر من أي وقت مضى إلى استراتيجية نقدية شاملة لتصفية الاستعمار من مؤسساتها الثقافية والفنية.

دلالات