سليمان البستاني.. مترجم الإلياذة مفكّراً إصلاحياً

10 نوفمبر 2019
(مشهد من إسطنبول في القرن التاسع عشر، كارل سيمون)
+ الخط -

ظلّ التيار الإصلاحي داخل الولايات العربية في الدولة العثمانية حاضراً ومؤثراً في أوساط النخبة والعامة حتى لحظة سقوط الأستانة، وقد قدّمت في هذا السياق صيغ مدنية حديثة تقوم على المواطنة المتساوية بين جميع مكوّنات المجتمع، وفي مقدمة رموزه كان سليمان البستاني.

ارتبط اسم الشاعر والنهضوي اللبناني (1856 - 1925) بمنجزين أساسييْن؛ وضع أول ترجمة شعرية عربية لملحمة هوميروس "الإلياذة" التي تعدّ من أهم النقول عن الأدب اليوناني خلال نهضة القرن التاسع عشر، كما ساهم في تحرير أعداد موسوعة "دائرة المعارف" التي أسّسها المؤرخ واللغوي بطرس البستاني، وذلك قبل توقفها عن الصدور.

لم تنل آراؤه السياسية وانخراطه في العمل العام حظّها من الدرس والتحليل، ومنها ما ضمّنه في كتابه "عبرة وذكرى أو الدولة العثمانية قبل الدستور وبعده"، الذي صدر أول مرة في 1908، أي أنه لا تفصله عن الأحداث التي يعلّق عليها سوى بضعة أشهر، وقد صدر العمل مؤخراً بطبعة جديدة عن "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" بتحقيق وتقديم الباحث والأكاديمي اللبناني خالد زيادة.

يمكن الوقوف عند خاتمة الكتاب التي مثّلت نبوءة أو رؤيا خائبة، أو أن أطرافاً عديدة أعاقت تحقّقها، إذ آمن البستاني بأن إحياء الإصلاح بعودة مجلس المبعوثان عام 1908، سيقود بلا أدنى ريب إلى نهضة شاملة في جميع المناحي بعد خمسة وعشرين عاماً، يفاخر بها أبناء الأمة العثمانية سائر أمم الأرض.

رحَل صاحب "لكل فن ومطلب" بعد فترة وجيزة من انهيار السلطنة التي حلم أن تستعيد أمجادها الماضية، وفاته أن يقف على أسباب تفكّكها وتقاسم تركتها بين القوى الاستعمارية، إلا أن تنظيراته المعمّقة حول تعليق الحياة الدستورية عام 1878 ثم استئنافها بعد ثلاثة عقود، تشير إلى مقولته الأساسية بتلازم مسار الديمقراطية والتمسك بالسيادة عبر رفض التدخل الأجنبي بكافة أشكاله.

ويبدو أن مقولة البستاني اصطدمت بخيارات أخرى على أرض الواقع، لكنها ستولّد جملة قراءات لمرحلته تستحق المراجعة اليوم، ومنها معارضته الشديدة لآراء أرباب السياسة بأنه "لا يسوغ إطلاق الحرية دفعة واحدة لأمة طال عليها عهد الاستعباد؛ لئلا تستحكم الفوضى وينتهي الأمر باستبداد الجماعات، وهو أشد بلاء من استبداد الرجل الفرد". وهو يفنّد ذلك بالتذكير بأن الدولة العثمانية انضمّت تحت لوائها شعوب ذات ماضٍ مجيد، ومنح سلاطينها ومنهم محمد الفاتح حرية الدين والتصرف بالأحوال الشخصية لغير المسلمين، وتمتعت العديد من الشعوب بالاستقلال الداخلي، الأمر الذي لم يكن سائداً في دول ذلك العصر.

ويُحسب لصاحب "طريقة الاختزال العربي" أن دعوته الإصلاحية كانت متكاملة، فلم يفصل مناداته بحرية الصحافة والتعليم والأحزاب والرأي والتعبير والحريات الشخصية وإعادة استقطاب اللبنانيين والسوريين في بلاد المهجر، عن إيمانه بإدارة حديثة لثروات البلاد ومواردها الاقتصادية وماليّتها بما يحول دون استمرار الفساد، في إشارة إلى شكل من أشكال الرقابة والمحاسبة.

تضم الطبعة الجديدة من الكتاب مقدمةً بقلم المحقق، ومتن الكتاب الأصلي، ويوضح زيادة أن "الكتاب لا يقتصر على كونه برنامجاً إصلاحياً، ويرى أنه في هذا المجال "وثيقة فريدة في بابها، فالكتاب هو في الوقت ذاته رؤية نظرية إلى ماضي الدولة العثمانية وحاضرها ومستقبلها".

تضع المقدمة هذه الرؤية ضمن ثلاثة مستويات: مرجعية الإصلاح، وتفكيك الاستبداد، ووحدة الدولة والشعوب العثمانية، حيث يعرض البستاني سريعاً في بداية كتابه محاولات الإصلاح، وصولاً إلى إعلان الدستور في عام 1876، لافتاً إلى جهود بعض رجال الدولة من أمثال رشيد باشا وعالي باشا، وبشكل خاص مدحت باشا المعروف باسم أبي الدستور الذي يُهدي البستاني إليه كتابه باعتباره رجل الحرية.

المرتكز الثاني في الكتاب، بحسب زيادة، هو جدلية الاستبداد والحرية؛ فـ"الاستبداد بعُرف البستاني هو بمنزلة الآفة التي خرّبت كل مناحي الحياة في الدولة والمجتمع، ومرجع التأخّر والجهل والفساد والظلم إلى الاستبداد وغياب الحرية والقول".

يتأسس المرتكز الثالث، وفق المقدمة، على وحدة العثمانيين؛ فالأمة العثمانية مكوّنة من أعراق وأديان متباينة، لكنها تلتقي في هوية واحدة هي "العثمانية" التي تجعل من كل أبناء الأعراق والأديان عثمانيين. ويضع البستاني قواعد لنهوض الوحدة العثمانية، هي: اعتماد لغة تعليم واحدة (التركية)، وإلزام أبناء العثمانيين كلهم بالتجنيد، والتنمية، وإطلاق حرية التجارة وتشجيع الصناعة، واستخراج موارد الأرض.

المساهمون