لوي-جون كالفيه.. الغالب والمغلوب في سوق اللغات

20 مارس 2018
ساسان ناصرنيا/ إيران
+ الخط -

"ليست اللغة سوى عُملة نقدية تُتداول في أسواق الألسن لتحقيق الفائدة"، هذه هي الاستعارة الحيّة التي شيّد على ضوئها عالم اللغة الفرنسي لوي-جون كالفيه (1942) نظريته حول وضعيّة اللغات في عصرنا هذا، بعد أن بات العالم قريةً يهيمن عليها اللسان الإنكليزي، وتعيش على وقع عولمةٍ لغوية ضارية.

ففي كتابه الأخير، الصادر بعنوان: "اللغات: أيُّ مصير؟ الآثار اللسانية للعولمة" (دار سنرس للنشر، 2017) يخصّص الألسني الفرنسي فصولاً، مشوِّقة وموثقة، لعرضٍ موضوعي عن أوضاع الألسن البشرية في أنحاء المعمورة، بعد أن خضعت لمسار عَولمة مُطبِق، فرض اللغة الإنكليزية معيارًا للنجاح والتواصل، مثلما فُرض التعامل بالدولار عملةً أساسية، الأمرَ الذي أدّى إلى انقراض العديد من اللغات، حتى التي صمدت إلى زمن غير بعيد، ناهيك عن اللهجات المحلية النادرة، وصارت اليوم تتحلّل وتَتراجع أمام سيطرة الإنكليزية ونفوذها، باعتبارها وسيلة التواصل الأجدى في كل البلدان.

ينقسم هذا الكتاب إلى تسعة أقسام يعالج من خلالها المؤلف مظاهر التشابك بين الحدث اللغوي والقرارات السياسية، فركّز بدءًا على أنماط تدخّل الدولة في اختيار اللغة التي ترتضيها لشعبها، أو تَفرضها عليه. ودعم دراسته هذه بعدة أبحاثٍ ميدانية استقصى من خلالها أشكال التداخل بين اللغة والسياسة في كلٍّ من تركيا وأوروبا والأرجنتين وكورسيكا.

وعاد بعدها إلى كتابات الألسنيين التي اعتمدها الساسة المعاصرون من أجل صياغة إجراءاتهم حول اللغة. كما تناول مجموعة السمات والخصائص التي باتت تميّز واقع اللغات اليوم مثل: عدم تساويها في التمثيل الرسمي في المحافل العالمية، وميل عدد منها إلى الاندثار، ولا سيما الألسن النادرة، ومثل انقسامها إلى "لغاتٍ كبرى" تُتكلّم في "نادي الكبار"، وأخرى "صغرى" أو "نادرة" تعود إلى الدول والجماعات المهمشة سياسيًا واقتصاديًا. وكان يدلّل على هذه التوصيفات عبر دراسات حالات ميدانية تشمل مثلًا استخدام اللغات في منظمة الأمم المتحدة، مستخلصًا منها مجموعة من الإحصاءات والجداول، مما أضفى على عمله طابع الموضوعية.

واختتم كتابَه بالتساؤل عن المصير اللغوي للعالَم، بعد أن استعاد عوامل التأثير في انتشار اللغات أو اندثارها، مقترحًا، في خلاصته، سلسلة من الحلول التي قد تساعد على التصدي لهيمنة الإنكليزية وتسونامي العولمة اللغوية الذي من شأنه أن يمحو الهويات الألسنية ويقضي على خصائص الثقافات المباطنة لها.

بنى الألسني الفرنسي هذه التحليلات على استعارة "سوق اللغات" مشبهًا إياها بعملة مالية، تتفاوت قيمتها حسب قوانين العرض والطلب، مؤكدًا أنَّ تداول اللغات، بما فيها من عباراتٍ ومجازات، شبيه بتداول البضائع والعملات في سوق مفتوحة على التنافس، النزيه وغير النزيه.

وبرهن الكاتب، طيلة هذه الفصول، أن اللغات ليست بمنأى عن تأثير العولمة، بما هي حركة كونية تفرض قوانينها بحسب مبدأ القوة والنفوذ، فتمحو اللغات المتغلبة الحدود وتسعى إلى تعويض/ تقويض اللغات الخاصة بكل مجتمعٍ، وعددها اليوم يقارب السبعة آلافِ لسانٍ، ويشكّل كل واحد منها إحدى مظاهر الهويّة. ففي سوق اللغات، يبحث المستخدمون/ المستهلكون عن الربح والجدوى، أي عن الأدوات اللسانية التي توفّر الربح الأكبر ضمن تطلّعات الأفراد والدول، على المستويات الاقتصادية والدبلوماسية، بقطع النظر عن طبيعة اللغة الأصلية وعبقريتها الخاصة.

وقد لفت الباحث أنظارنا إلى حالة التعايش بين العُملة المحلية، وهي اللغات أو اللهجات الأصلية لمجتمعٍ ما، أكانت محكيّة أم مكتوبة، وبين العملة العالمية، مثل الدولار، ويرمز هنا إلى الإنكليزية، ثم مدى تأثير هذا التعايش على اللسانيْن، الغالب والمغلوب، وتحكمه في ظواهر الاقتراض والتبادل والتوليد المعجمي، أو خروج بعض الكلمات من الاستعمال...

وهكذا تندرج كل هذه التحليلات، وهي مزيجٌ من الوصف الموضوعي البارد والالتزام الفكري، ضمن اجتراح فرعٍ لغوي مُبتكر، أطلق عليه اسم Politologie Linguistique أو "علم السياسة اللغوي"، وموضوعه دراسة العلاقات التي قد تنعقد بين السياسات المتصلّة باللغات، تشريعًا وتشجيعًا أو تحريمًا ومنعًا، وبين واقع اللغات وعوامل تطوّرها الذاتية.

وقد سبق له في كتابه عن "اللغات والاستعمار" (1974) أن أوضح كيف تفرض السلطة الحاكمة لُغتها "الفصحى" وتعتبرها الأفضل والأجدى لترسيخ نفوذها وتأكيد مشروعيتها، محتقرةً سائر اللغات، ومعتبرة إياها سجلاتٍ دونية، لا تتوفر على نفس الخصائص التواصلية والجمالية.

وهذا عين ما يجري الآن ضمن مسار عولمة اللغات الذي يُعلي من شأن لغات القوى الكبرى، ويعتبر ما عداها "عُملات لا تُصرَّف"، فلا يعتد بها في سوق الفائدة والنفوذ.

وأما الحل الذي يرتئيه الكاتب لإنقاذ اللغات واللهجات المُستضعفة، فيتمثّل حسب قوله: "في تشجيع التنوّع اللغوي، عبر تدريس لغتيْن، بشكلٍ آلي، ضمن أي نظام تربوي. وهذا هو ما تقترحه، دون هوادة، عدّة بلدان على الاتحاد الأوربي، مع التأكيد على ضرورة البدء بتعلم لغة أخرى غير الإنكليزية".

وهكذا يتّصل هذا الحل بما يمكن أن نطلق عليه: "تعويم اللغات النادرة"، حتى نبقى في نفس نسيج الكاتب الاستعاري، بمعنى اقتراح تدريس هذه اللغات عوضًا عن الإنكليزية وتشجيع استخدامها وتقوية صمودها بفضل تحريك إمكانياتها الاشتقاقية والتواصلية، وذلك من خلال التعليم بكل مراحله، والتأليف الصحافي بأشكاله، والاستخدام الرسمي في الإدارات والمؤسسات، والإنتاج الأدبي...

تصبّ كل الإشكاليات المهمة، التي أثارها الكتاب بجرأة وصرامة، في صميم انشغالات الفكر العربي الحديث، ولا سيما في صفوف المدافعين عن العربية الفصحى ضد الناعقين بموتها، أو الداعين إلى استبدالها بالدارجة، أو بإحدى لغات الاستعمار. كما يشير الكتاب إلى وضعية اللغة العربية من حيث خضوعها، كسائر لغات العالم، إلى عولمة لا ترحم، تُترجم عبر هيمنة الإنكليزية على سجليْها: الدارج والفصيح.

ولا شك أنَّ دعوته إلى الحفاظ على اللغات "الصغرى"، التي صاغها في خاتمة كتابه، تهمنا بالدرجة الأولى من حيث تعلقها بضرورة مواصلة المجهودات لفرض استخدام الضاد في سائر مجالات الحياة اليومية، بعد ترشيدها، أي إعطائها كل مميزات العملة النافعة المفيدة وتيسير نحوها ومُعجمها واستمرار حركات التعريب والترجمة لإثرائها، فضلاً عن استعمالها في تحرير المؤلفات العلمية والخطابات الرسمية.

ولا بدّ أن يشترك في هذه الجهود طرفا النسيج المجتمعي ضمن مشروع متكامل: السلطة الثقافية/ السياسية من جهة أولى عبر إجراءاتهما لتطوير الضاد وترويجها، وسائر الفئات الاجتماعية والمجتمع المدني، من جهة ثانية، التي عليها أن تغيّر موقفها الاحتقاري منها، ذلك الذي يعتبر الضاد لغة بكائيات على الأطلال، أو سجلّ الطبقات المتخلّفة، أو أداة الخطاب الديني المتحجّر، اقتناعًا من الجميع أنَّ تنشيط الضاد سيفضي لا محالة إلى "أرباحٍ جمّة"، أوّلها الحفاظ عليها، عنوانًا على هوية حضارية تضرب بجذورها في التاريخ، وتمتد بأغصانها إلى أحدث الثورات المعرفية.


بطاقة: Louis-Jean Calvet عالم لغة فرنسي من مواليد مدينة بنزرت التونسية عام 1942. تخصّص في "علم اللغويات الاجتماعية"، وركّزت أطروحات كتبه على العلاقات والمواءمة بين السياسة واللغويات. من بين أعماله: "الألسنية والاستعمار" (1974)، و"التقاليد الشفوية" (1984)، و"الحروب اللغوية والسياسات الألسنية" (1998)، و"نحو إيكولوجيا للغات العالم" (2006)، و"كان يا مكان 7000 لغة" (2011).

المساهمون