"سطيف.. المقبرة الجماعية": ما لا يُنسى بالتقادم

25 ديسمبر 2018
نصب تذكاري في سطيف
+ الخط -

تُعدّ مجازر الثامن من أيار/ مايو 1945 واحدةً من كبريات جرائم الحرب التي ارتكبتها سلطات الاحتلال الفرنسي في الجزائر؛ إذ تجاوز عدد الضحايا من المدنيّين، في غضون أيّامٍ قليلة، خمسين ألفاً، بحسب الإحصاءات الجزائرية.

تلك الأحداث التي ارتبطت، على نحوٍ ما، بالحرب العالمية الثانية (1939 - 1945)، ستكون العامل الأبرز في تبنّي خيار الكفاح المسلّح، ومن ثمَّ اندلاع الثورة الجزائرية في تشرين الثاني/ نوفمبر 1954، والتي ستنتهي باستقلال البلاد عام 1962.

ماذا حدث حينها بالضبط؟ هذا هو السؤال الذي يُحاول الكاتب والصحافي الجزائري، كمال بن يعيش (1959)، تقديم إجابةٍ عنه في كتابه "سطيف المقبرة الجماعية، مجازر 8 ماي 1945"، الذي صدر قبل أيّامٍ باللغتَين الفرنسية والعربية.

كُتب العمل بالفرنسية، قبل أن ينقله الصحافي فوزي بن كاري إلى العربية، بمراجعة الأكاديمي عبد الغني بارة، وتقديم المؤرّخ الفرنسي المناهض للاستعمار جيل مونسيرون، وأستاذ التاريخ المعاصر في "جامعة سطيف2" بشير فايد. واللافت أن الكتاب، على أهميته، لم يصدر عن دار نشر؛ حيثُ فضّل مؤلّفه تحمُّل تكاليف نشره، والذهاب به إلى المطبعة مباشرةً.

يتتبّع الكاتب، الذي وُلد في مدينة سطيف بعد أربعة عشر عاماً من وقوع الأحداث فيها، آثار الجريمة التي طالما حاول الاستعمار الفرنسي طمس معالمها، ليُقدّم عملاً يجمع بين التأريخ والصحافة والاستقصائية المعمّقة، في محاولةٍ لكشف تفاصيل عن المجازر، وملامح ضحاياها.

في مقدّمته، أشاد مونسيرون بالمعلومات التاريخية التي قدّمها الكتاب حول المجازر، معتبراً أن قيمته الحقيقية تكمن في "اجتهاده لاستعادة ما أمكن من هويات الضحايا الجزائريّين الذين تمكّن المؤلّف من تقفّي أثرهم ومعرفة أسمائهم وسط ركام رهيب من الطمس الممنهَج والتعتيم المبيّت من قبل الإدارة الفرنسية".

اندلعت أحداث "الثلاثاء الأسود" في الثامن من أيار/ مايو 1945 في مدينة سطيف (300 كلم شرقي الجزائر العاصمة)، لتمتدّ إلى مدنٍ أخرى في الشرق الجزائري؛ أبرزها مدينتا خرّاطة في ولاية بجاية وقالمة، إضافةً إلى سوق أهراس والمسيلة.

تزامنت الأحداث مع احتفالات الأوروبيّين و"الحلف الأطلسي" بالقضاء على النازية والانتصار في الحرب العالمية الثانية؛ حيث خرج متظاهرون جزائريّون في مظاهراتٍ سلمية لتذكير سلطات الاحتلال بوعد الجلاء من البلاد نظير مساهمة أعدادٍ كبيرة من الجزائريّين في محاربة القوّات النازية. لكن الفرنسيّين، وبدل الوفاء بوعدهم، فضّلوا الردّ على المتظاهرين بالنار.

ومع التعتيم الكبير الذي طاول الجريمة، ترسّخت صورة مغلوطة لدى الرأي العام الفرنسي الذي ظلّ ينظر إليها على أنها كانت مجرّد أحداث شغبٍ أودت بقرابة مئة مستوطن فرنسي، ما أدّى إلى تدخُّل فرنسي لـ"الرد عليها"، وكانت النتيجة "بعض المئات" من القتلى الجزائريّين.

ظلّت تلك الصورة سائدةً لسنين طويلة بعد استقلال الجزائر، حتى حين عرض فيلم "الخارجون على القانون" للمخرج الجزائري الفرنسي رشيد بوشارب في "مهرجان كان السينمائي" سنة 2010، والذي تضمّن مشاهد تصوّر فظاعة قتل المتظاهرين الجزائريّين، ندّد بعض السياسيين الفرنسيّين بالعمل ودعوا إلى مقاطعته، معتبرين أنه "يشوّه" الأحداث.

وفي هذا السياق، استغرب مونسيرون، في مقدّمة الكتاب، ردود الفعل تلك، معتبراً أنّ ما جاء في الفيلم مطابقٌ للوقائع التاريخية، غير أن المؤرّخ الفرنسي سجّل، في المقابل، عدم تطرّق بوشارب في عمله السينمائي إلى "أعمال العنف التي ارتكبها جزائريون كردّ فعل ضدّ الأوروبيّين".

كانت الرواية الرسمية الفرنسية، من جهتها، تردد أن جريمة جنود الاحتلال جاءت رد فعل على ما فعله المتظاهرون من "تجاوزات" و"اعتداءات"، لكن ما ورد في الكتاب يذهب إلى عكس ذلك تماماً، ويؤكد أن المجزرة خُطّط لها قبل ذلك، والأدلة متعددة منها تصريح الجنرال شارل ديغول الذي حذّر سنة 1944 من أن يفلت شمال أفريقيا من الفرنسيين، وتصريح والي قسنطينة يوم 26 نيسان/أبريل 1945 متنبئاً باضطرابات وحل حزب كبير، وحديث رئيس فيدرالية رؤساء البلديات يوم 7 آذار/ مارس 1944، وهي أدلة تؤكّد أن الفرنسيين اتفقوا على اللجوء إلى مجزرة استباقية للقضاء على أي ثورة متوقعة وهو ما حدث يوم 8 مايو/ أيار 1945.

ورغم مرور أكثر من سبعين سنة على تلك الأحداث الدموية، استطاع المؤلف عن طريق هذا العمل الاستقصائي جمع خمسين شهادة ممن بقوا أحياء من الذين عاشوا تلك الكارثة، إضافة إلى اعتماده على وثائق نادرة من أجل إعادة بناء القصة من جديد والكشف على ملامحها، بعد أن شابها الغموض مع التعتيم الممنهج الذي اعتمدته سلطات الاحتلال طويلاً.

ولئن تواصلت الأحداث وامتدت تداعياتها سنين طويلة، إلا أن الانطلاقة كانت ذات "ثلاثاء أسود" على حد تعبير المؤلف، وقد خصّص له فصلاً كاملاً بالعنوان نفسه، أعاد من خلاله رسم التفاصيل الزمنية لما حدث، انطلاقاً من الوثائق المكتوبة والشهادات الشفوية لشهود لا يزالون على قيد الحياة، وكيف تحوّل موعد السوق الأسبوعي للمدينة الهادئة في الشرق الجزائري إلى مناسبة للتظاهر ضد الاستعمار وكيف سقط أوّل شهيد في تلك الأحداث (بوزيد سعال) على يد قوات الشرطة ليتبعه شهداء آخرون تجاوز عددهم عشرات الآلاف.

ولأن الأحداث تتجاوز بكثير ما وقع يوم "الثلاثاء الأسود"، فقد جاء مختصراً إلى حدّ ما، وكان بمثابة تمهيد لأطول فصول الكتاب وأهمها على الإطلاق والذي حمل عنوان "الوجه الآخر للمذبحة" أو "مآسي الظل والخفاء"، وهنا لم يكتف المؤلف بالوثائق المكتوبة وهي متعددّة ومثبتة في الكتاب، بل ذهب إلى مناطق متعددة من تراب ولاية (محافظة) سطيف ودوّن ما قاله خمسون شخصاً من شهود المأساة ورواتها.

ورغم أن الكثير من الشهود تقترب أعمارهم من التسعين، إلا أن ما قاموا بروايته يقترب كثيراً من التطابق، ويعطي للحادثة أبعاداً جديدة، تتحدى رواية الاحتلال التي اعتقدت أن الجريمة التي تمّ التعتيم على حقيقتها وتفاصيلها طويلاً يمكن أن تُنسى ملامحها مع التقادم.

وفي الوقت الذي حاولت فيه سلطات الاحتلال التستّر على الجريمة، في زمن كانت فيه المعلومة شحيحة جداً، جاءت تقارير دبلوماسية لتفضحها، وهذا ما بيّنه الكتاب عندما سلّط الضوء على تقريرين؛ الأول صدر عن القنصل العام البريطاني في الجزائر حينها، جون إيريك ماك لين كارفل، والذي نشر لأول مرة في أسبوعية "لوبوان" الفرنسية يوم 16 أيلول/ سبتمبر 2010، والثاني تقرير وضعه قنصل سويسرا في الجزائر ج. ألبير الموجود ضمن الوثائق الدبلوماسية السويسرية.

ويخلص المؤلف إلى القول إن تحليل وثائق الدبلوماسيين البريطاني والسويسري يؤكد أن الجريمة أعدّت لها سلطات الاحتلال بشكل مسبق، وأنها صادرة عن تعليمات من الجنرال شارل ديغول الذي لم يكن مستعداً لتعديل النظام الأساسي للجزائر بعد الحرب العالمية الثانية، وجاءت تلك المجزرة المدبّرة من أجل القضاء على أي انتفاضة مسبقاً من شأنها أن تؤدي إلى "إفلات الجزائر وشمال أفريقيا عموماً من بين أيدي الفرنسيين".

أحد وجوه الجريمة الأخرى هو تعمّد سلطات الاحتلال طمس معالم المجزرة، عندما منعت بطرق مختلفة تسجيل القتلى في السجّل المدني وكثير منهم لم يكن مسجّلاً أصلاً عند ميلاده، وبالمقابل ركّزت على عدد القتلى الفرنسيين الذي بلغ 103، لكن الجزائريين سجلوا عدد ضحاياهم، وتشير تقديرات إلى أنه تجاوز بكثير الـ 50 ألف شهيد، إضافة إلى الجرحى والمصدومين نفسياً.

لم تنته الجريمة الفرنسية عند حدود سنة 1945، بل تواصلت إلى الآن مع تلاعب السياسيين الفرنسيين بالملف وعدم اعترافهم إلى حد الآن بشكل صريح بالمجزرة. فما يزال كثير من السياسيين الفرنسيين، خصوصاً في مواقع رسمية، يدلون بتصريحات باهتة ومراوغة، وليس آخرها تصريحات الرئيس السابق فرانسوا هولاند الذي قال إن "ما قمنا به في الجزائر ليس إبادة جماعية". هكذا تبقى الجريمة متواصلة.

المساهمون