سركون بولص ورقصة الستينيات الباهرة

18 ديسمبر 2018
(سركون بولص، من صفحة "الجمل")
+ الخط -

تُرجِم "نبي" خليل جبران عن أصله الإنكليزي عشرات المرّات منذ صدوره سنة 1923، لكنه (بالنسبة إليَّ على الأقل) لم يستقِم عربياً حتى 2008، حين ظهرت أخيراً ترجمة سركون بولص (1944-2007)، فأبرزت رؤيوية النص القريبة من أشعار وليام بليك، وهو ما يكاد يختفي تماماً في ترجمة ثروت عكاشة "المُعتَمَدَة" مصرياً.

هكذا حين يقول الشاعر الآشوري في "ملاحظةٍ" على ترجمة جبرا إبراهيم جبرا لشكسبير تعود إلى عام 1993 إن نقل "الكثافة المُسَلْسَلَة للمعنى كما في إِنبيق سينمائي" يتطلّب لغةً أكثرَ دقّة وحيوية من هذه "القعقعات الكلامية التي تشي، بشكل يكاد يدعو إلى الرثاء، بمحاولة (تعريب)، وكأن بلاغة اللغة العربية إنما تَكمُن في كلمات أُودِعَت توابيتها الملائمة منذ أحقاب"، فأنت تعرف بالضبط عَمَّا يتحدّث.

يَرِد مقال سركون القصير عن مقاربة جبرا لـ"البارد" ضمن خمس وعشرين قطعة نثرية يتقافز الشاعر وسطها من تعليق غاضب على "الثورية" المزعومة لنزار قبّاني صاحب "قاموس (حريم)" الذي "لا يستطيع أن يتحدّث إلّا من خلال (عطرياته)" إلى تحيةٍ لمايكل أونداتجي مؤلّف "المريض الإنكليزي" كشاعرٍ قبل أن يكون روائياً، ومن مقال لجويس كارول أوتس عن تجلّيات وتداعيات بحث الأدب المعاصر عن "النص المقدّس" إلى تعريف نافذ ودقيق بشعر وليام كارلوس وليامز. ومع أنه لا يوجد منطق واضح وراء نشر هذه الكتابات والترجمات مجتمعةً، اللهم إلا ارتباط الكثير منها بالأدب الأميركي المعاصر، فإن صدورها مؤخّراً عن "منشورات الجمل" تحت عنوان "الهاجس الأقوى عن الشعر والحياة" يظلُّ مناسبةَ احتفال.

شربة جديدة من بحر يغرف منه الناشر منذ وفاة سركون، مقدّماً ترجمة شعرية تلو أخرى (تيد هيوز وو. هـ. أودن وو. س. ميروين وغيرهم) وعملٌ لم يُجمَع بعد آخر لم يُرَ. فمنذ 2008، أصدرت "الجمل" لسركون، فضلاً عن ديوانه الضخم "عظمة أخرى لكلب القبيلة" (2008)، أعماله الشعرية الكاملة من جزأين (2011)، ومجموعتَي قصص إحداهما من تأليفه: "عاصمة الأنفاس الأخيرة" (2015)، والأخرى بترجمته: "قصص عالمية مختارة: بول باولز وآخرون" (2017)، إضافةً إلى كتاب حوارات من 437 صفحة: "سافرتُ ملاحِقاً خيالاتي" (2016) وعدد كبير من الترجمات المجهولة. وخلال 2018 وحدها، صدر، فضلاً عن "الهاجس الأقوى"، ديوانان قديمان لم يَسبِق نشرهما: "سيرة ناقصة" و"رسالة إلى صديقة من مدينة مُحاصَرَة"، إلى جانب مختارات شعرية لليوناني يانيس رتسوس.

ثمّة عشوائية بادية في ترتيب نصوص "الهاجس الأقوى"، وأخطاء طباعية ونقص عام في المعلومات المتعلّقة بمصادر النصوص. ومع ذلك، يعقد الكتاب صلات موحية بين ترجمة سركون وإبداعه، ويتضمّن إشارات جانبية إلى ما تَرَاكم من أعماله على الصعيدَين خلال عشر سنوات.

فثمّة، على سبيل المثال، تقديمُه المسهب الواثق لمجموعة نصوص نثرية كتبها أساطين "البيت جنيريشن" - "جيل الصخب" أو "الجيل الطوباوي" أو "المغلوب" الأميركي - ترجمَها للعدد أربعين من مجلّة "شعر" الصادر سنة 1968، أي بعد أفول نجم هذه "الحركة المهووسة المتهوّرة" بعشر سنين على الأقل. لسببين اثنين، نذكر هنا الملفّ المسمّى "البيتنكس يحتضرون عبر المخدّرات"، والذي يتضمّن، كما في مجلّة "شعر"، ترجمات مُزامِنة لكل من غاري سنايدر ومايكل مكلور وألن غينسبرغ ولورنس فيرلنغتي.

فأمّا السبب الأول، فهو أن سركون يأتي فيه على ذكر "عواء" الشاعر الأميركي أَلِن غينسبِرْغ، مشيراً بجرأة وبصيرة إلى أن غينسبرغ منذ خرج على العالم بقصيدته العَلَامَة، تحوّل إلى "نوع من الأنبياء المتقاعدين، وشعره فقد كثيراً من دمه… إن خلاصة "الببيتنكس" تتردّد الآن في سلوك، وليس في نتاج أدبي. وإن كان الأخير موجوداً، فهو لا يعدو أن يكون تصعيداً زَبَدِيّاً، ومعالجات يوغية (من اليوغا) لمسائل غير ملهمة.

هذه، إذن، مناسبة للحديث عن ترجمة سركون بما لا يمكن أن يُسمّى إلّا "قُدْرَةً" لأقوى قصائد غينسبرغ وأوسعها تأثيراً، ما يجعل منها نصاً مؤسِّساً في الشعر العربي. لقد أُنجِز ذلك النص في الثمانينيات ولم يتوفّر حتى عام 2012! وأُنجز رغم أنه يبدو لأوّل وهلة مستحيلاً، فكما يقول سركون في إحدى مقابلاته الصحافية عن "عواء": "كان عليَّ أن أنتظر سنوات طوالاً حتى أسبر أغوارها جيداً.

وهكذا، ظلّت القصيدة معلّقة إلى أن وَجَدتُ نفسي في اليونان، واشتغلتُ عليها مدّةً طويلة". فـ"عواء"، فضلاً عن أنها "محتشدة بأسماء الشوارع والأحياء والأشخاص" ومُغرقةٌ في محلّيتها بل و"بيتنكيتها" من جانب الألفاظ والإشارات والتراكيب، فإنها مكتوبةٌ بلغة محكية يصعب محاكاتها في الفصحى بعيداً حتى عن أية اعتبارات فنية.

لكن قُدرة سركون لا تكمن في تخطّيه هذه العوائق وإنما في "نحت" معادلات عربية معاصرة للمفاهيم والشحنات التي تحملها القصيدة. وتكفي ترجمته لكلمة "هيبسترز" - تلك التي اشتُقّت منها "هيبيز" لاحقاً من جانب ورثة البيتنكس في الستينيات (تُعَرَّب الأخيرة "هيبيون") - لإدراك أنه كان يعرف تماماً ما يقوله لجبرا. أي إبداع ودقّة على مستويَي اللفظ والمعنى في ترجمتها لـ"هبائيون" (من "هيب" الإنكليزية و"هباء" العربية"!

وأمّا السبب الثاني، والأهم هنا، فهو أن ملف البيتنكس يُعَدّ "جواباً" لـ"قرار" اللحن الذي يعزفه أكثر مقالات هذا الكتاب تأثيراً في: "الهاجس الأقوى: خواطر حول الستّينات". فرغم أن بين النصّين أربعاً وعشرين قارّة ومحيطاً، كلاهما يتعامل مع الموضوع نفسه، وكلامها يعبّر عن الروح المتفانية نفسها. لكن وكما يُعِدّ سركون ملفاً عن شعر الستينيات الأميركي من بيروت سنة 1968، فهو يكتب شهادة عن شعر الستينيات العراقي من سان فرانسيسكو سنة 1992.

وكأنما ليرينا أن بين الأمس والغد فعلاً - كما يكتب في استعادته التسعينية، مستوحياً كتاب الموتى الفرعوني في إشارته إلى علاقة الأمس بالغد - "آصرة خفية وشفّافة، ولكن جبرية أيضاً وأكيدة، كتلك التي بين الوجه والمرآة"، هي نفسها تربط أيضاً بين هنا وهناك. في خواطر الستّينيات، تتراءى حساسية سركون بولص مُزدوجة الثقافة الخالية من الادعاءات.

تتراءى عبر تحليله الرقراق لمكان الشاعر من "مجتمع مُخَدَّر بأبسط كليشيهات الفكر الديني والإيديولوجي" ومن زمن "أوّل ثورة في تاريخ العراق" (14 تمّوز/ يوليو 1958)؛ حيث يسود "شعراء المنابر، وشعراء الأحزاب" و"أنماط من الشعر السياسي".

تتراءى في إيمانه المتجدّد ليس بـ"المساهمة التاريخية" التي لا تقبل الشك في مسار الأدب العربي ولا بمتلازمة "قيمة وقامة"، ولكن فقط بأن "حركات التجديد غالباً ما تبدأ بمجموعة صغيرة من الكُتّاب في أشد المدن الصغيرة انغلاقاً ورجعية"، إيمانه بـ"روح جماعية دافعة وتوّاقة" هي القاسم المشترك بين ستّينيات النضال السياسي العربية وستينيات التمرُّد الاجتماعي الأميركية.

ودعك من التداعيات النقدية لكل ما يتذكّره سركون عن المقاهي والمكتبات والسينمات، عن المذابح والمظاهرات والأحكام العرفية، عن "شرطة السلوك" والكتب المسروقة والسجن "المعنوي والحقيقي" وأرباب الشعر العمودي ثم "هواجس الانفصام الذي عاناه هذا الجيل أكثر من أي جيل آخر بين الوطن والمنفى".

دعك حتى من أطروحته المحورية بأن "الهاجس الأقوى" لـ"جماعة كركوك"، أمثال مؤيّد الراوي وفاضل العزّاوي وصلاح فائق والكاهن الكلداني يوسف سعيد وسواهم ممّن كانوا يتحلّقون "في نقاشات صاخبة ونشوانية"، لم يكن التجريبَ والتمرُّدَ فقط وإنما كان هوس الفرد بالبحث عن "تلك اللغة الجديدة الخاصة به، عن صوته"… تتراءى تلك الحساسية الفريدة في استدعائه قصيدةً كتبها عن شاعر ستّيني مجهول عرفه وقتذاك.

إنها لقطة لشخص "ينزل الدرج المؤدّي إلى غرفة (سعاد)… الممرّضة الليلية ذات الحذاء الأبيض الحزين،/ البغيّ المتساهلة في النهار" بعد أن تحسّس "بقجة/ صغيرة جاء بها قبل ساعات من السجن"، حيث "أراني في ظهره آثاراً خلّفتها أسلاك الكهرباء/ رغم أن عنقه المهتزَّة من مركز في النَقرة كلّما/ توقّف عن الحديث، تكفي/ وتكفي إيماءته اللاإرادية الناتجة من ضربات الجلاد… ينزل الدرج… وعلى وجهه المرفوع بحدّة/ لسحب النفس الأوّل من سيجارة أولى/ يتلقّى الشمس الغائصة بين منارتين وراء دجلة/ كأيّ فاتح عاد منصوراً من معاركه" - هكذا يختم سركون قصيدته – "متدثّراً/ بجلود الذئاب".

لعلّ "صديق الستّينات" هذه من أجمل قصائد الشاعر الآشوري فعلاً. يقول سركون إنه قصد أن تكون القصيدةُ "عاريةً من أي زخرف، تُمَثِّل (فقر) الكلام البشري العادي… كنت أقول شيئاً من فرط إنسانيته أنه تجرّد من كل ما يمتّ إلى (الأدب) واللهجة (الشعرية) المقبولة رسمياً على أنها شعرية بِصِلة… هذه كانت تحيتي الباطنية المتواضعة لصديق الستّينات".

المساهمون