"العنف والإنسان": مساءلة تبريرات "علمية"

11 ديسمبر 2018
من معرض لـ ليون غولوب (تصوير: بِن بروشني)
+ الخط -

في فيلم "موت ستالين" (2018)، قدّم المخرج البريطاني الإيطالي أرماندو يانوتشي مشاهد هجائية للحقبة الستالينية، منها مشهد البداية الذي يحضر فيه أعضاء اللجنة المركزية وهم يتندّرون بوقائع تعذيب المعارضين كي يتمكنوا من إضحاك زعيمهم ستالين.

ربّما نعتقد أن هذا التعامل الخفيف مع العنف فرضته اعتبارات كوميدية في الفيلم، غير أننا نفهم ونحن نقرأ كتاب "العنف والإنسان، كيف يؤثّر العنف على البشر ويعيد تشكيل حيواتهم" للباحث الألماني المتخصّص في التاريخ المعاصر يورج بابروفسكي، أن حقولاً معرفية كثيرة تتعامل مع هذه الظاهرة البشرية بكثير من الاستخفاف والاستهتار أيضاً.

صدر العمل مؤخراً عن "دار صفصافة" بترجمة علا عادل، وفيه يشتبك المؤلف مع الأفكار المتعارف عليها عن العنف، بداية من تعريفه وتفكيك العلاقة الوثيقة التي تربط بين الإنسان والعنف، خصوصاً في درجاته القصوى حين يتحوّل إلى مجازر ومذابح.

بابروفسكي متخصّص في الحقبة الستالينية، وهو هنا يطلعنا على أحد وجوهها: كيف اشتغلت آليات العنف داخلها؟ لكن أكثر من ذلك، تطرّق الباحث الألماني إلى مسألة تبرير العنف. هذا التبرير الذي قد يصل لتبرئة طاغية مثل ستالين أمام شعبه حيث يتعامل المؤلف مع فكرة التبرير كأمر خطير للغاية يتوجب التوقف أمامه بمنتهى الحذر.

يرى بابروفسكي أن التبرير الذي ينقذ صورة طاغية، وينقذ بالتبعية قيادات وجنود تلقوا الأوامر لتنفيذ العنف؛ يضع القيم الإنسانية للمجتمع المتحضر في مأزق لأنه يشكك فيها، فحين يسقط بعضهم في تبرير العنف يمكن أن نتساءل معهم: أي جدّية يتعاملون بها مع قيم مثل المروءة والشعور بآلام الآخرين والصدق؟

يلعب التبرير أدواراً خطيرة، فكلما وجد "الجلاد" تبريرات مقنعة وجد سبيلاً إلى التملّص من كل عقاب ممكن. هنا، يسرد بابروفسكي وقائع لجنود استطاعوا النجاة من عواقب ارتكابهم أفعالاً وحشية لأنهم استطاعوا تقديم هذه الأسباب المقنعة، بينما لم ينج آخرون ارتكبوا المستوى نفسه من الوحشية لأنهم لم يستطيعوا فعل ذلك. يقول: "لطالما قدّم أعوان الديكتاتوريين والطغاة بعد انتهاء أعمالهم الوحشية مبررات لإثبات أن إرشاداتهم وأوامرهم كانت تخدم أغراضاً معقولة".

في هذا السياق، يسخر بابروفسكي من أنه يجري في كثير من الأحيان حشو العنف والوحشية بدوافع نبيلة وأفكار مثل الضرورة والحتمية، وبهذه الطريقة يتم تمرير التبرير بشكل سلس، واستند بابروفسكي إلى أمثلة عدّة؛ منها إجابة تشارلز تايلور، رئيس ليبيريا الأسبق، على الاتهامات التي وجّهت له من الهيئة التي عقدت في لاهاي لمحاكمته على العنف الذي ارتكبه إبان الحرب الأهلية التي اندلعت في البلد الجار، سيراليون، حيث قال إن العنف كان هو الحل لإنهاء الحرب الأهلية. يعلق بابروفسكي هنا: "حتمية الحرب كانت هي الإجابة التي تمنح الأمر منطقاً حتى بعد سنوات طوال، فالفظائع تبرر ذاتها حين يستند الجناة إلى الضرورة والحتمية، ومن يخرق أعراف التبرير يصبح وحشاً في عين المدعي".

وعلى مستوى معرفي بحت، يشير بابروفسكي إلى التعارض الجزئي بين الفلسفة وعلم النفس في النظر لمسألة العنف البشري، وفكرة الدوافع وغيرها، ويشير كذلك إلى تورّط الدراسات التاريخية في مسألة تبرير العنف، بل أحياناً السير في طريق تمجيده.

يعتبر الباحث الألماني أن علماء النفس كثيراً ما أدرجوا ممارسة العنف باعتباره نتاج مرض نفسي، وهنا يرى بأن ذلك يُعدّ مدخلاً لتمرير فكرة التبرير. ويبدو أن بابروفسكي يطمئن أكثر إلى رأي الفلسفة، وهو أكثر حزماً من علم النفس.

يقول بابروفسكي: "يتحدّث العنف عندما تعجز اللغة. عندما تندلع أعمال العنف فإن ذلك مرجعه في الغالب إلى شروط التفاعل المباشر، ولا تُفّسر نظرية الدوافع إلى استخدام العنف سوى القليل؛ لأن الطريق بين الدوافع وصولاً إلى استخدام العنف الفعلي طريق طويل". وهكذا يعود المؤلف إلى دائرة الفعل السياسي، حيث يرى أن فرضية اعتبار العنف ناجماً بشكل جذري عن عقد نفسية، تطمئن إليها بعض الأنظمة الاستبدادية، للهروب من العقوبة، بل وتفضّلها أحياناً الشعوب المسالمة كي لا ينتابها الفزع، وكي يستقر في وعيها أن العنف حالة استثنائية. يقول: "نحن نعتقد أن عالمنا خال من العنف لأنه وديع ومسالم وإذا حدث هذا العنف ينبغي أن تساق الأسباب والدوافع حتى لا يهتز الإيمان بالسلام الأبدي".

وفي ما يخص تعاطي الدراسات التاريخية مع فكرة العنف، انتقد بابروفسكي ما تعج به هذه الدراسات من مغالطات، فكم من مجازر ارتكبت في فترات تاريخية متفاوتة تعامل معها الرواة كملاحم وبطولات. كما انتقد بابروفسكي "المجتمع المتحضر"، خصوصاً في أوروبا، مشيراً إلى دراسات سوسيولوجية ظهرت بعد الحقبة النازية، والتي اعتبرت العنف في أوروبا مرحلة استثنائية خاضتها القارة العجوز ولن تتكرّر. ومن ضمن المنظرين لهذه الفكرة المؤرخ هاينريش أوغست فينكلر، والذي كتب دراسة بعنوان "استحضار لعهد استثنائي" اعتبر فيها أن ما حدث في أوروبا من حروب ومجازر لا يمكن أن يقع مرة أخرى.

يسخر بابروفسكي أيضاً من مقولات عالم النفس الأميركي ستيفن بينكر ومن ادعائه بأن العنف لن يتحكم في الإنسان في عصر الحداثة، بل ستسيطر الحكمة والشعور بالتعاطف مع الآخرين، واعتبر بابروفسكي في نبرة تهكّمية أن أساتذة هارفرد عليهم - قبل وبعد نشر دراسات كهذه- أن يذهبوا بضعة كيلومترات بعيداً عن الحي الذي يقطنونه، ومن ثمّ مشاهدة العنف بأمّ أعينهم في أحياء ينتشر فيها العنف بشكل سافر، يصل في كثير من الأحيان إلى القتل للحصول على المال أو المخدّرات.

يتهكم بابروفسكي أيضاً على توجّه بعض المؤرخين الذين يعتبرون "أنه علينا فقط أن نتذكر فظائع الماضي، وأن نصدر تنبيهات بشأنها، وحينئذ سيتوقف بالتأكيد العنف عن التحكم في حياتنا!".

هكذا يحاول كتاب "العنف والإنسان" أن يتعامل مع فكرة العنف بعيداً عن الرهاب الذي يصيب الباحثين عند النظر إلى العنف كشبح هالوين أو لغز يصعب فك طلاسمه. العنف بالنسبة إلى بابروفسكي فكرة غريزية تفشل المعرفة العلمية في فهمها بسبب المبالغات والتعميم والتنظير السطحي والبحث عن التبريرات. يقول: "ليس العنف هو اللغز، إنما اللغز هو أن نتعجب بشأنه، فالعنف مصدر فعل، ليس متاحاً لكل شخص فحسب، بل يمكن لكل شخص استخدامه أيضاً".

المساهمون