باتريك موديانو: لعبة المتاهات الزمنية

26 مارس 2017
(باتريك موديانو، تصوير: سي. هيلي)
+ الخط -

تعيدنا "دورا بروديه" للروائي الفرنسي باتريك موديانو، (نوبل 2014)، إلى زمن الاحتلال الألماني لباريس خلال الحرب العالمية الثانية. وتقع أحداث الرواية، التي صدرت في نسخة عربية عن "دار صفصافة" بترجمة ناهد عبد الحميد، بين ثلاثة أزمنة.

الزمن الأول هو حاضر الراوي، الذي يبدأ فيه كتابة هذه القصة، أما الثاني فيسبق هذه اللحظة بثماني سنوات عندما وقعت عينه على صورة الفتاة المفقودة دورا بروديه في نسخة قديمة من جريدة "باريس سوار" بتاريخ 31 كانون الأول/ ديسمبر1941. ويتمثّل الزمن الأخير في حياة بروديه وحتى لحظة اختفائها. يفعل موديانو ذلك من دون أن يفصل الأزمان بوضوح، ويدخل في لعبة من المتاهات الزمنية.

يقوم السرد على استعادة سلسلة من الذكريات الشخصية المتتابعة للراوي في سنوات طفولته وشبابه المبكّر، تلك التي ترتبط بشكل ما مع المكان الذي عاشت فيه بروديه قبل أن تصبح في عداد المفقودين.

ربما ليس لذكرياته الشخصية صلة بموضوع الرواية الأصلي، ولكنها تبدو كجسر يعبره الراوي ليصل منه إلى حياة شخص آخر هو بروديه، ليبدأ في ترميم الفجوات الناقصة في قصة بطلته التي لم يلتق بها قط، عن طريق تقاطع الذكريات القديمة بالحدث الحالي ليتوه أحياناً الخط الفاصل بين الزمنين، وتظهر الأماكن ليست فقط كساحة للأحداث، ولكن كبطل رئيسي يحمل من روح قاطنيه.

يبدأ موديانو رحلة طويلة من التحرّيات والتنقّل بين الدوائر الحكومية، ليتعرّف على تاريخ ميلادها ومحلّ ولادتها، ويتتبع تاريخ أسرتها الشخصي إلى العمق حتى يصل إلى حياة والدها اليهودي النمساوي الذي ولد في فيينا وعاش فيها حتى سن العشرين وتركها عقب الهزائم الأولى التي لحقت بجيوش النمسا، حيث فرّ مع عشرات الآلاف من اللاجئين من غاليسيا، وأوكرانيا، ليتكدّسوا في الأكواخ الفقيرة، ثم انتقاله بعد ذلك إلى التجنيد في الفيلق الفرنسي في ثكنات مكناس وفاس ومراكش وخروجه في نهاية الأمر من الخدمة نتيجة عجز أصابه.

عن طريق الصور القديمة يعيد موديانو قراءة الحياة القديمة لبروديه وأسرتها؛ الأماكن التي عاشوا فيها، بلاط الأرضيات، الزخارف الهندسية، ملابسهم، وجوههم ونظراتهم في الصور الفوتوغرافية، يحاول الإجابة عن الأسئلة التي أثارتها الأدلّة البصرية من دون أن يضع خطاً فاصلاً بين الحقائق والتكهّنات.

يكتشف الكاتب أن بروديه كانت تختار الهرب بإرادتها الشخصية من مدرسة "قلب مريم المقدّس" الداخلية ليستعيد واقعة هروبه الشخصي، فرتابة الحياة والليالي الباردة، التي تشعل وطيس الوحدة وتزيد من الاختناق هي التي تدفع إلى الفرار المفاجئ.

من خلال هذا التقاطع بين المؤلّف وإحدى شخصياته، يكشف بعضاً من هويته الشخصية، ملامح من شبابه، وعلاقته المتوترة مع والده الذي اختفى هو أيضاً، وكأنه بالبحث عن الفتاة المفقودة يتتبع أثر والده، وبمعرفة هويتها يتعرّف أكثر على هويته الشخصية، ويجسّد تقاطع المصائر البشرية في زمن الحرب.

رواية موديانو هي استعادة للماضي المنسي، وتجسيد لمعاناة الفرد في المدينة المتوحشة وبحثه عن جذوره الضائعة، عبر مجموعة من الصور القديمة في صندوق الذاكرة، لكنها تؤرّخ في الوقت نفسه لفترة الاحتلال الألماني لفرنسا، بكلّ تفاصيلها الإنسانية وكيف تتحوّل الحياة إلى رحلة دائمة من المطاردات والهرب والتنقل بين معسكرات الاعتقال، ويتذكّر من خلالها طفولته وشبابه الذي عاشه هارباً متنقّلاً بين الملاجئ، لذلك تتأرجّح الرواية بين السيرة الذاتية والمتخيّل، وكأن الراوي يتخلّص من ثقل ذاكرته عن طريق بثّها في ذاكرة أبطاله.

دلالات
المساهمون