جيش من رجل واحد لمطاردة بن لادن (2/2)

01 اغسطس 2019
+ الخط -

توالت رحلات جاري فولكنر الحالمة باصطياد أسامة بن لادن، وأصبحت أكثر دقة في نطاقها الجغرافي المفترض، حيث بدأ جاري يتسلق الجبال الحدودية الوعرة التي يشتبه في اختباء بن لادن فيها، طبقاً لما كانت تنقله وسائل الإعلام الأمريكية، بعد أن ثبت عدم وجود بن لادن في كهوف تورا بورا، بعد كل ما تعرضت له من قصف مدمر. 

في إحدى الرحلات قرر جاري ألا يكتفي بالخنجر والسيف، فاشترى مسدساً صينياً للإجهاز على بن لادن، لكنه وصف المسدس الصيني فيما بعد بأنه "أسوأ سلاح على الإطلاق"، ومع مرور الوقت والتجارب، زادت ثقة جاري في نفسه، حتى حينما تعرض لتجربة صعبة، هي سقوط حقيبته التي تحتوي على كل أمواله في وادي ضيق خلال تسلقه أحد الجبال، فاضطر لأن يهاتف أخيه سكوت، طالبا منه أن يرسل إليه بعض النقود، بعد أن بشره أن أموره تسير على ما يرام، وبعد أن وصلته النقود من أخيه، عاد لرحلاته وسط الجبال، التي يقول لمراسل الصانداي تايمز أنها كانت مثمرة جدا، حاكياً بعض تفاصيلها كالآتي: "كنت أقصد مناطق القبائل في الجبال، وأخذت أتسلق الجبال وأكتشف الأماكن المختلفة هناك، فوجدت أماكن للإرهابيين، واكتشفت أنهم يتصلون بشبكة مخبرين يوجدون في الأودية التي تحيط بها الجبال، عبر أجهزة اتصال لاسلكية صغيرة، ليتم تحذيرهم فور دخول أي أحد المنطقة وتوجهه نحو الجبال، ليختبئوا في سراديبهم التي يصعب العثور عليها، والتي تشبه سراديب وأقبية فيتنام، التي عانى منها الجيش الأمريكي، وذات ليلة انطلق عيار ناري أمام الفندق الصغير الذي كنت أقيم فيه، فخرجت من حجرتي ومعي سيفي، لأجد موظف الفندق منبطحا على الأرض، ويتضح فيما بعد أن القاعدة قتلت أحد جنود حراسة الفندق، الذي وجدنا جسده النازف ملقى على الأرض، وفي وقت متأخر من نفس الليلة قيل لي إن ما جرى لم يكن مستهدفا به الجندي، وإنما كنت أنا المستهدف به، وأنهم يحذرونك لتغادر". 


وبغض النظر عن صحة تلك القصة أو دقتها، لم يكن فولكنر مستعداً لدخول تحدي مع القاعدة،

فالرجل لديه هدف محدد هو اصطياد بن لادن شخصيا، ولا يمكن أن ينجرف إلى أي معارك جانبية مع رجال بن لادن، لذلك غادر المنطقة، بل وغادر البلاد كلها زيادة في التمويه، وفي زيارته التالية التي كانت تحمل الرقم ستة، اتجه إلى نفس المنطقة التي شعر أن تعرضه للتهديد فيها، يعني أن صنارة بحثه غمزت، وأن بن لادن قريب منها، لكنه هذه المرة قرر أن يقيم في نزل صغير بعيد عن مدينة شاترال التي تقع في الحدود الأفغانية أقصى شمال باكستان، لتدخل مهمته هذه المرة أكثر مراحلها جدية وخطورة. 

كان فولكنر يشعر أنه اقترب كثيرا من بن لادن، من خلال جمعه للكثير من المعلومات، والتي كان أخطرها ما عرفه، حين قام مرة بركوب عربة كارو لمسافة ميل، حتى وصل إلى أقرب نقطة جبلية من الحدود الأفغانية، فوجد رجالا يقومون بأعمال بناء في أحد الكهوف الجبلية، فادعى أنه أخرس، لكي لا يتحدث معهم، كما أنه لم يطلب منهم أي أكل أو شرب، بل ظل يتمشى في المكان وكأن المكان بأسره ملكه، وهو ما جعلهم يطمئنون لوجوده، ويتحدثون أمامه بشكل عادي، وكان قد تعلم اللغة المتداولة في المنطقة خلال سفرياته المتتالية بشكل يكفيه لفهم ما يقال أمامه، ولذلك عرف أن بن لادن يسير مع حاشية مكونة من ثلاثة أشخاص، وأنه يطلق عليه لقب الأسد، أما إبنه الذي يسير معه دائما فيطلق عليه لقب الشبل، في حين يطلق على طباخه السعودي لقب التنين، ويطلق على حارسه الخاص لقب الثعبان، وهنا شعر أنه من المهم أن يتوقف لكي لا يثير الشبهات، وأن يعود إلى أمريكا، للراحة والمزيد من التخطيط وجمع المزيد من الأموال، فقام بتخبئة مسدسه الصيني تحت إحدى الصخور، ووضع معه سيفه والقيود الحديدية التي سيقيد فيها بن لادن حين يقبض عليه، محتفظا بنظارة الرؤية الليلية، والإنجيل طبعا. 

حين كان فولكنر يحضر لزيارته السابعة إلى باكستان، علم أن سائحا يونانيا تم اختطافه من قبل حركة طالبان الحليفة لأسامة بن لادن، وأن ذلك وقع في مدينة شيترال التي كان يقيم فيها، اثناء "غزوة" تم شنها على المعبر الحدودي بين باكستان وأفغانستان، وهو ما اعتبره المقربون منه نذير سوء، لينصحوه بإلغاء خطته للسفر، لكنه لم يستمع إليهم، فقد كان مشغولا بما هو أهم، وهو اختبار معدات التخييم الجديدة التي اشتراها على أعلى قمة جبلية في كولورادو، لكي يساعده ذلك على التركيز في مهمته، حين يصل إلى الجبال التي يختبئ فيها بن لادن، وهناك حدث له دوار وفقد اتزانه، وظل للحظات ملقى في بقعة من الجبل، مهدداً بالافتراس من الدببة الموجودة في المنطقة، لكنه انسحب من المكان، وحين عاد إلى مدينته جريلي، ذهب إلى المستشفى ليخضع لفحوص طبية، فاعتقد الأطباء بسبب سجله المشين، أنه يحاول الحصول على بعض الأدوية المدرجة على جدول المخدرات، لكنهم حين وصلت نتائج التحاليل، وجدوا أن فولكنر يعاني بالفعل من حالة سيئة في الكلى، وأن مرضه لم يتم تشخيصه من قبل، وأنه يجب عليه أن يبدأ في العلاج فورا، قبل أن تسوء حالته أكثر. 

لم يستجب فولكنر لطلبات الأطباء، ولا لتوسلات أسرته، فرفض تأجيل سفره إلى باكستان، لأنه كان يشعر أنه سيقبض على بن لادن هذه المرة بالذات، بل إن اكتشاف إصابته بالكلى جعله يشعر بأنه الأقرب للقبض على بن لادن من أي أحد آخر قائلاً: "لقد علمت أن بن لادن يعاني من نفس حالة الكلى التي أعاني منها وهو الآن يعيش وسط الجبال ولا يتأثر"، لكنه حين وصل إلى مدينة شاترال الباكستانية، كانت الأمور قد تغيرت بفعل التطورات الأخيرة التي جرت للسائح اليوناني، لتصبح إقامة جاري في المنطقة كارثية بكل المقاييس، فقد أصبح سلوك أهالي المدينة تجاهه عدائيا، حيث أصبحوا يرشقونه بالحجارة، بدلا من تحيته والترحاب به كلما رأوه، وأصبح على كل زائر أجنبي أن يقيد إسمه في سجلات قسم الشرطة هناك، حتى يعينوا له حارسا خاصا يقوم بحراسته لكي لا يتعرض للخطف، برغم أن السائح اليوناني المختطف كان قد تم تحريره بعد ستة أشهر من الأسر. 

وحين نزل جاري فولكنر في النزل الصغير الذي تعود على أن يقيم به بعيدا عن المدينة، فوجئ بسيارات تابعة للقاعدة تحاصر الفندق وتقتحمه، ليقوموا بتصويره، وقبل أن يغادروا أعطوه إنذارا رسميا بمغادرة المكان فورا، وهو حدث كان يمكن أن يصيب أي أحد بالرعب، مثل صاحب النزل الصغير الذي حذر فولكنر من عواقب تحدي هؤلاء الأشخاص، لكن فولكنر على العكس تماما، رأى فيما حدث تطورا إيجابيا مدهشا، وفكر في أنها قد تكون فرصة جيدة، لو أن غارات رجال القاعدة على الفندق تتكرر، ليتركوا مواقعهم في الجبال بدون حراسة كافية، فيستطيع هو أن يخترقها، وقد يأتي بأسامة بن لادن مقبوضا عليه دون مقاومة، قال هذا بكل جدية لمراسل الصاندي تايمز الذي لم يعد يستغرب ما يقوله جاري، ولم يعد يتثبت مما إذا كان يتحدث بجدية أم أنه يهزل في كلامه. 

مع حلول الظلام، وحين تأكد جاري فولكنر من أن الحارس المكلف بحراسة الفندق، قد استغرق في النوم وهو يحمل سلاح الكلاشينكوف الميري، فر فولكنر هاربا من الفندق، ومعه سيفه وخنجره ومسدسه الصيني ونظارته الليلية وإنجيله، واتجه نحو الجبل الذي أصبح متأكدا من أن بن لادن يقيم فيه، وحين قطع شوطا لا بأس به في تسلق الجبل، يصف ما حدث كالآتي: "شعرت بأنني أعاني مما يشبه الجفاف، وأن دمي قد تلوث، وشعرت أن كل الأشياء مختلطة، وأنني أحتاج وبشدة للقسطرة، وشعرت كما لو أنني صخرة تدحرجت فوصلت إلى هذا المكان واستقرت دون حراك". وكان يمكن أن يموت جاري فولكنر وهو مرمي في تلك البقعة من الجبل، لولا أن عثرت عليه فتاتان صغيرتان تقيمان في قرية مجاورة، وقامتها بربط حزام من الصخور الصغيرة حول خصره، لتجده الشرطة بعد فترة مريضا جدا لا يقدر على الحركة ولا يستطيع الكلام، ليتم إسعافه إلى مركز علاج الكلى في مدينة بيشاور الحدودية الباكستانية، ليتلقى علاجا جيدا وتكتب له الحياة. 

بعد أن تحسنت حالة جاري فولكنر الصحية كثيرا، قال لمراسل الصاندي تايمز: "أريد أن أوضح أن أحدا لم يطلب مني مغادرة البلاد، على العكس تماما، فلقد سألوني إذا ما كنت أرغب في العودة إلى الجبل نفسه مرة أخرى لكي أكمل مهمتي، لكنني قلت لهم لا أستطيع، فدمائي الآن ليست بحالة جيدة، ومع أن صورتي الآن بالتأكيد مرسومة على جدران حجرة القيادة الرسمية للقاعدة، بعد أن أصبحت وجها معروفا عبر وسائل الإعلام المحلية التي غطت ما حدث لي، لكن هذا لن يثنيني عن المحاولة مرة أخرى في المستقبل، سأذهب ثانية لاصطياد بن لادن، ولكن سأذهب كما أنا، سأذهب كلص خارج على القانون، وليس كفرد مقاتل أو جندي في الجيش، لأن الجندي في الجيش يخضع لقواعد اللعبة، بينما قواعدي أنا هي أنه لا توجد قواعد".

قرر مراسل الصاندي تايمز بعد حواره مع جاري فولكنر، أن يستشير أحد أصحاب الخبرات العسكرية الذين عملوا في تلك المنطقة الجبلية محاولين اصطياد بن لادن، ففوجئ به يقول له أنه يعتقد أن ما قام به فولكنر، هو الطريقة المثلى لاصطياد بن لادن، الذي لن تنجح أي قوة منظمة في العثور عليه، "لقد أمضيت زمنا طويلا في أفغانستان، في الفترة ما بين 2003 إلى 2008، واتضح أنه من الصعب جدا أن تقترب من بن لادن، بسبب الضغوط والتوازنات السياسية وكل ذلك الهراء، بل إنه لم يكن مسموحا لنا بعبور الحدود الأفغانية، وفي كل مرة كنا نطارد فيها هؤلاء الأوغاد، كنا نطاردهم باتجاه باكستان، ولا نتمكن من مطاردتهم فيها، لذلك قد يحتاج الأمر فعلا إلى مجرمين متخصصين، أو حتى أحد التواقين إلى الموت للقيام بذلك، لكن ذلك ربما لن يكون مجديا أيضا، لأن بن لادن محاط بالكثيرين بما فيهم حراس أفارقة ضخام مأمورين بقتله إذا تعرض في أي لحظة لخطر القبض عليه". 

بعد سنتين من نشر قصة جاري فولكنر في الصحيفة البريطانية الشهيرة، اكتشف الجميع أن بن لادن لم يكن أصلا في الكهوف التي كان يطارده فيها جاري فولكنر، وأنه لم يكن محروساً بحراس أفارقة مأمورين بقتله، وأنه كان موجودا في بيت آمن داخل باكستان، وقرب أحد مناطقها العسكرية، وبعيداً عن المنطقة التي كان يطارده فيها جاري فولكنر بسيفه ومسدسه الصيني، ولا يعرف أحد حتى الآن  على وجه اليقين كيف تمكن الأمريكان من صيد بن لادن، خاصة بعد ما أثاره الصحفي الشهير سيمور هيرش بعد فترة من قتل بن لادن، حين قام بالتشكيك في الرواية الأمريكية الرسمية، قائلا إن ما جرى لبن لادن كان تسليما له من قبل الباكستانيين، وليس مهارة أمريكية في الوصول إليه، ليعاد فتح ملف القبض على أسامة بن لادن من حين لآخر، دون أن يتم كشف حقائقه الكاملة، لكن التفاصيل التي تم كشفها حتى الآن، جعلت من فيلم كبير مثل "زيرو دارك ثيرتي" للنجمة جيسيكا شتاين، والذي قام بتصوير عملية القبض على بن لادن، فيلما مكذوبا مفبركا لا علاقة له بالواقع، وحينها ويا للعجب أصبح فيلم (جيش من رجل واحد) برغم تواضع ميزانيته ومشاكله الفنية وهزلية أحداثه وعبثيتها، أشد جدية وواقعية، على الأقل لأنه حدث بالفعل، فالمجد للعبث. 

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.