ألم القطيع

12 ديسمبر 2016
+ الخط -


لاجئ في قبرص؟ أجل، أسير وحدي في شوارع تتكلم اليونانية، أحياناً الإنكليزية، وأناس ينامون باكراً جداً، أرصفة واسعة، يمشي عليها كل شيء إلا الزحام.


السيارات تنطلق باتجاهين متعاكسين، لضيق الطرقات. محطات وقود أكثر من عدد السيارات. كورنيش "الفينيكودس" قرب قلعة مدينة لارنكا القبرصية، لا يهدأ في الصيف. يمرون من هنا، سيّاح ورجال أعمال وعاهرات وعابرون من بلاد الثلج الدائم. عمال بلغار ورومان وعرب أثرياء وآخرون فقراء.


إنها الجزيرة الزراعية التي ترقد على كنوز النحاس والمناخ المثالي للزراعة والاستجمام. ربما كل ذلك لا يعني لسوري مثلي أي شيء. أهرب من بلدي المشتعلة بالموت والقصف والمليشيات بحثاً عن الأمان.


وصلت إلى بلد يعيش ببطء شديد. سكانه (المليون نسمة تقريباً) متوسط أعمارهم سبعين عاماً، إنهم خالدون في متع الهدوء، الهواء البحري يعقم كل شيء.

لكن، البطء تركني بلا مدرسة لتعلم اللغة اليونانية، حتى بحثت بنفسي وعلى حسابي الشخصي وبدأت للتو. الأمر الجيد الوحيد أنهم سألوني "ماذا كنت تعمل في سورية"، قلت لهم: صحافياً وكاتباً، فوجد مكتب العمل لي وظيفة "عتّال"، في مقلع حديد يبعد عن بيتي عشرات الكيلومترات.


لاحقاً سوف يرفضني "المقلع" لأني لا أتكلم اليونانية وليس لدي سيارة بعد. سأجلس على قائمة انتظار عمل جديد... ويبقى السؤال: لماذا لا أملك سيارة، كم أنا بدائي..؟!


أجل لم تساعدني أية منظمة في تعلم اللغة على الأقل، ومع مساعدات الأصدقاء وبعض استكتابات الجريدة استطعت أن أعيش، واليوم بعد مرور سنة على وجودي في قبرص، وجدت أن القطيع السوري في الدول الأوروبية أو شبهها، هو أكثر تقدماً وتحضراً من بعض المئات الموجودين هنا، في مدن قبرص التابعة للاتحاد الأوروبي رسمياً.


إنه ألم القطيع بالنسبة لي. الكل تقريباً. الكل يعمل في مجاله ويضيف ثقافات أخرى في بلدان اللجوء. بينما هنا نحن مشغولون في دفع فواتير الماء والكهرباء والتأمين، ثم أخيراً التعلم البطيء للغة والبحث عن أي عمل لا يحتاج لغة، وحده نقل البضائع، عمل الدواب هو المناسب لنا ربما.


الصفحات الصغيرة التي علقتها أمام طاولتي في قبرص حالياً، هي مشاريع قصائد وأخرى مفاتيح روايات، أبحث عن الصورة المختلفة للنص في الطرقات وفي قصص المحيط حولي. كأن ما عشته من تجربة متواضعة في سورية، ليس إلا تجنيداً في طابور القطيع ذاته الذي وجد متنفساً، وها هو يعاني من تغيرات ما تربّى عليه من ثقافة تجديد في الطبع والعلم والعمل.


السهولة في اللجوء. انتبهوا. نحن لاجئون ولسنا مغتربين! إذا السهولة تلك تعني استسلاماً وتطويعاً سريعاً للذات على مبدأ "نفذ ثم اعترض" العسكري، أيام كان حافظ الأسد قد فرض الثياب العسكرية كلباس موحد لطلاب المرحلتين الإعدادية والثانوية.


السهولة ليست مرونة كما يزعم البعض. جيلي ومن تلاه تخشّب في المعتقلات الداخلية والخارجية، في سجون السلطة أو سجون اللجوء. بعضهم على جبهات القتال، والآخر تحت التراب كان قد هتف "الموت ولا المذلة"، وتشتتنا بين التمرد للوصول إلى التغيير، وبين القتل للوصول إلى السلطة.


إننا جميعاً ناتج حتمي لفظائع النظام التربوية والأخلاقية التي زرعها في المدارس والجامعات ومؤسسات الدولة وتفاصيل المبادرات الفردية للتغير. هذه الأخيرة بحثتْ كثيراً عن مكان تنضج فيه بعيداً عن ترهلات الأدلجة التي سلحت كل شي حتى دمرت سورية بفضل الجميع، لكنها لم تنمُ إلا في مقابر الأحلام، التي بهيئة سترة نجاة بحرية أو بطاقة معونات لإحدى المنظمات الإغاثية.