يوم لبناني عادي

20 ديسمبر 2022
+ الخط -

عزيزي! أغلق عينيك واترك مخيلتك تعمل معي اليوم، فسأضع بين يديك في سطوري هذه نافذة للمشاهد خماسية الأبعاد ستأخذك معي إلى يوم من حياة لبناني عادي، "عادي جداً"!  

في بلد مأزوم اقتصادياً ومنهار اجتماعياً لدولار سقفه غير محدّد، هل يستيقظ اللبناني وبفمه ماء؟ كلاً، يصبح اللبناني على جملة "كم بلغ سعره اليوم" و"كم سأصرف اليوم". أول ما يفعله اللبناني هو مراجعة هاتفه علّه يجد بريداً إلكترونياً فيه فرصة عمل من بين مئات الأعمال التي تقدم لها، والشرط الوحيد أن يكون خارج لبنان!

يغادر فراشه مرغماً ويتوجه لغسل وجهه، يفتح صنبور المياه ليتفاجأ ككل يوم بأن المياه مقطوعة! يتوجّه نحو المطبخ للبحث عن قليل من المياه لغسل وجهه ولغلي ركوة القهوة إن توفرت وحالفه الحظ. للمفارقة عزيزي القارئ إنّني حتى الآن لم أذكر الكهرباء لأنها أساساً مقطوعة، والمضحك المبكي أنه في مكان ما فاتورة "كهرباء الدولة" عن الشهر الماضي موجودة أو مرمية بين سلسلة من الفواتير المبعثرة هنا وهناك!

بعد كل هذه الرياضة الصباحية يغادر اللبناني العادي "العادي جداً" متوجّهاً إلى عمله، ولأنّ الوقود غير متوفّر أحياناً أو محتكر، يختار ركوب المواصلات العامة

بعد كل هذه الرياضة الصباحية يغادر اللبناني العادي "العادي جداً" متوجّهاً إلى عمله، ولأنّ الوقود غير متوفّر أحياناً أو محتكر، يختار ركوب المواصلات العامة، وإذا كان هذا اللبناني من "الطبقة الفقيرة" سيركب سيارة الأجرة توفيراً للوقت، يستقبله السائق إما بالشكوى أو بالتنهد على أوضاع طوت من عمرها عامها الثالث، وبين زمامير السيارات وزحمة الصباح صوت خافت للمسجّلة داخل السيارة لمذيعة بصوتها الناعم لا تنقل سوى أخبار ارتفاع وانخفاض وأزمات وتصريحات تلفت انتباه السائق الذي فيما بعد سيرفع الصوت ويتكلم بصوت مرتفع مع المسجلة محللاً الوضع الاقتصادي والاجتماعي، وبين كل هذه الأصوات، صوت المواطن الذي يردد "لماذا لم أستقلّ سيارتي لأرتاح من كل هذا العذاب"!

بعد طول عناء وصل اللبناني الذي يعيش على هامش الحياة إلى عمله ليستقبله عدد من زملائه بالطريقة نفسها التي ركب فيها سيارة الأجرة. الجديد في هذا الاستقبال أن الشكوى ستكون لتسع ساعات متواصلة، وهو، المأزوم مثلهم وربما أكثر، يصبّ جلّ تفكيره على كيفية إنهاء هذه الساعات بأقل ضرر نفسي ممكن، أو يسجل انتصاراً بعدم لجوئه إلى مسكّن ألم الرأس بسبب ضغط العمل وكثرة "النق"!

انتهى الدوام أخيراً! واختار اللبناني العادي "العادي جداً" الذهاب لتسوق بعض حاجيّات منزله الأساسية، وبين الرفوف يراقب بصمت الأسعار، وإذ به يسمع بصوت صفّارة أحد المتسوّقين تدوي في أرجاء المتجر، يهرع لمعرفة ما يحصل ليجد صاحب الصفارة مصدوماً من سعر كيلو العدس أو الأرز. بعد هذه "الرعبة" يواصل هذا اللبناني العادي استكمال جولته بين الرفوف مراقباً أسعار السلع، وبسلة المتجر الفارغة يسمع همساً بين الناس يتذمرون من الغلاء، لتعود به الذاكرة إلى الصباح، ومن ثم إلى سائق السيارة، وأخيراً إلى العمل، ليجد النتيجة واحدة. يخرج من المتجر خالي الوفاض دون أن ينطق بكلمة واحدة!

يختار هذا اللبناني البائس العودة إلى منزله سيراً على الأقدام ليس لممارسة الرياضة أو للتنزه، بل لتوفير بعض المال. على الطريق، لا شيء سوى "الشكوى" يقف قليلاً أمام متجر للألبسة ليجد في الداخل نقاش محتدم بين إحدى السيدات وصاحب المتجر من أجل تخفيض سعر أحد الفساتين علماً بأن الأوراق الملونة والمزركشة على واجهة المتجر مكتوب عليها إما "تخفيضات" أو "بنصف الثمن"، وفي المقلب الآخر رجل يفاصل بائع الخضار بسبب تغيير الأسعار بين الساعة والأخرى، فالدولار غير ثابت والعملة الوطنية تنهار.

بعد نهار طويل في يوم هذا اللبناني العادي "العادي جداً" الذي وصل إلى منزله يجد نفسه محاصراً بكمية من "النق" في بلد افتقد أدنى مقومات الحياة، وأصبح القاسم المشترك بين جميع أبناء الوطن الواحد هو الشكوى وكثرة التذمر على وقع أسعار مرتفعة، ونقاشات يومية، وصفارات تدوي في المتاجر. فيدخل هذا اللبناني محدود الدخل عديم القدرة الشرائية إلى النوم وكأن ما حدث في يومه هو سيناريو عادي سيتكرر مع كل شروق لشمس جديدة، ويغدو النهار التالي عادي "عادي جداً".

مالك دغمان
مالك دغمان
صحافي لبناني، مذيع ومراسل، عمل مع العديد من المؤسسات المحلية في كتابة المقالات، إجراء المقابلات السياسية وتحضير التقارير المصورة وإجراء الأبحاث الميدانية والاكاديمية. كما شارك في أعداد كتاب "رمادي حي" وكتب العشرات من القصص الاجتماعية. يعرّف عن نفسه بالقول "لا تيأس إذا تعثرت أقدامك وسقطت في حفرة واسعة، فسوف تخرج منها وأنت أكثر تماسكاً وقوة، والله مع الصابرين".

مدونات أخرى