يوم عيد سعيد مع بهاجيجو (4/4)
قبل أن ينقضي وقت اللقاء طلبت من الأستاذ بهجت عثمان أن يحدثني عن صديقه صلاح جاهين فقال: "الله يرحمه صلاح كان في بيننا علاقة خاصة وفريدة من نوعها، يمكن أكتر من زملاء كتير ليا، يعني أول ما دخلت كلية الفنون الجميلة كان صلاح سابقني بسنة، ومن بين كل الطلاب الجدد اختارني فجأة وسألني انت اسمك إيه؟ قلت له: بهجت، ضحك وقال لي: ده انت أبويا بقى، أصل أنا اسمي صلاح بهجت حلمي جاهين، تعال لما أرسمك، ورسمني رسم مبهر لسه محتفظ بيه حتى الآن، ولما شفت الرسم اترعبت لإنه لما تدقق فيه، هتلاقي مستوى فني مبهر لا يتحقق إلا للمحترفين لسنين طويلة، وكان صلاح بيعيد السنة وقتها على ما أذكر، فقت لنفسي إذا كان بهذا المستوى وبيعيد السنة طيب أنا هاعمل إيه؟ بعدها بشوية فوجئت بصلاح بيقول لي إنه هيسيب الكلية ويروح يدرس في كلية حقوق لإن والده عايزه يطلع رجل قضاء زيه بالضبط، ومن ساعتها واحنا أصحاب وفي بيننا صداقة بلا حدود".
في أحد فصول كتابه الجميل (صداقة بلا حدود) يتحدث بهاجيجو عن انبهاره بشعر العامية الذي كان يكتبه صلاح جاهين، قائلاً: "أصبحت راويته، أحفظ قصائده بمجرد سماعها منه، وفي السنة النهائية لدراسة القانون، كان قد ثبّت أقدامه في الرسم وفي الشعر، وأصبح معترفا به من الجميع كرسام وشاعر في مجلة صباح الخير، ومؤلف أغاني كبار المطربين، عندها انقطع عن دراسة القانون، ولم يعترض والده، واشتغلت أنا أيضا في صباح الخير وصرنا زملاء عمل وأصدقاء عمل، لأن صداقتنا لم تنقطع، حتى بعد أن فرق الموت بيننا، ذلك هو ص. ج. أو صديقي صلاح جاهين. صلاح حي إلى الأبد بإبداعه الفني، سواء في الرسم أو الشعر أو التمثيل، وصداقتي له ستعيش في وجداني طول العمر".
كنت وقت أن التقيت بالأستاذ بهجت مغرماً بأعماله القديمة في (صباح الخير) و(المصور) والتي لم يتم جمعها في كتب، مثل كتابيه الرائعين (حكومة وأهالي) و(الديكتاتورية للمبتدئين) اللذين جمع فيهما أهم أعماله المنشورة في صحيفة (الأهالي)، ولم يكن ابنه هشام قد أصدر في ذلك الوقت الديوان الذي يضم عدداً من أجمل أعماله، وحين سألت الأستاذ بهجت هل ينوي تجميع أعماله الكاملة منذ أن بدأ رسم الكاريكاتير، فقال: "طبعاً صعب، أصلاً ما عنديش كل اللي رسمته، لكن طبعاً عندي أهم الحاجات اللي رسمتها وأعتز بها، خصوصاً تجربة رسومات الموضوع الواحد الضخمة اللي كنت باعملها في (المصور)، منها مثلاً لوحة لست بتصرخ وبتقول: الحقوني حرامي، وعملت حواليها مشهد عام للبلد بمختلف فئاتها وهي بتعلق على الصرخة دي، ولوحات كتيرة عملتها في السكة دي وأزعم إنها غير مسبوقة، برضه محتفظ بمجموعة رسومات بيضمها موضوع واحد زي (حاجات بتتكلم) وشغل كتير، وطبعا مش هاطلب من حد ينشر الشغل ده، لكن أتمنى إني ألاقي حد يجمعه في كتب طبعاً، هاكون سعيد بده لكن مش هاسعى ليه منعاً للإحباط، لإن الموجود منه يكفي وزيادة".
بعد ضحكة عريضة بددت بعضاً من أساه يضيف الأستاذ بهجت: "أنا قصتي مع الكتب أصلاً غريبة، يعني أنا مثلاً لم أسع لنشر كتاب (الديكتاتورية للمبتدئين) الشهير ببهجاتوس، كنت بانشر الرسومات دي في صحيفة (الأهالي) وصحيفة (السفير) اللبنانية في الوقت نفسه، فبتوع السفير قالوا لي إنهم متحمسين لنشر الرسوم دي في كتاب، وانبسطت من ده جدا، وخدت أفلام الكتاب اللي بتستخدم في الطبع واديتها لشاب مصري طلب مني إنه يطبع نسخة في مصر وقلت له أنا مش عايز منك حاجة بس مقابل أجري يا ريت تخفض ثمن الكتاب، وفعلا طبع الكتاب ونزله بسعر اتنين جنيه للنسخة ونفد والحمد لله، أما كتاب (حكومة وأهالي) فالفضل يرجع فيه الحقيقة لصلاح عيسى ربنا يمسيه بالخير وهو صاحب فكرة العنوان، وكان بيكتب مقالة في الأهالي وطلب مني إني أرسم له رأس للمقال، ولما عجبني الرسم اللي عملته قلت له هارسم لك رسمة جديدة كل أسبوع وبعدين طلب مني ينزل الرسومات في كتاب الأهالي وكتب لها المقدمة ولولاه ما كانش الكتاب طلع".
من الكتب اللي باعتز بيها جدا كتاب (عائدون) اللي نجحت فيه لأول مرة إني أخلي إخواننا الشعراء يكتبوا شعر مخصوص لرسوماتي، بدل ما احنا يا رسامين بنرسم لهم بعد ما يكتبوا شعر (يضحك) وسافرت مخيمات غزة واعتكفت هناك ورسمت وبعدين لما رجعت كتب لي صلاح جاهين وصلاح عبد الصبور وأحمد عبد المعطي حجازي قصائد على الرسوم وكتب إحسان عبد القدوس قصة مصاحبة لرسم، وتم طبع الكتاب في هيئة الاستعلامات من سنين طويلة وهو من أكثر التجارب اللي أعتز بيها وأتمنى يعاد طبعه".
مع الأسف، لم تتحقق أحلام الأستاذ بهجت، فلم يتم إعادة طبع هذه الكتب ولم يتحقق حلمه بتدريس أعماله لأطفال بلاده، ولم يكتب له الشفاء بعد رحلة العلاج إلى لندن، بل وتواصلت معاناته مع المرض التي كانت قد بدأت سنة 1998 حين أصيب بآلام حادة في الأمعاء، وتدهورت حالته النفسية حين توفيت رفيقة عمره بدر حمادة وتمكن المرض اللعين منه، ليرحل إلى جوار ربه في 2 يونيو 2001.
بعد موته رثاه أستاذنا علاء الديب في مقال نشرته مجلة (الهلال) ولم يتم جمعه في أحد كتبه للأسف، وهو في نظري من أجمل وأصدق ما كتب عن بهجت عثمان، ولن أجد ما هو أجمل منه لكي أختم حديثي عنه:
"في سنوات غابرة، سنوات الجاهلية شربنا أنا وبهجت كثيراً، كان الغريب المشترك، هو كأننا كنا نبحث عن حل ما في قاع الزجاجة احتجاجاً أو رفضاً أو هروباً، سمه ما شئت لكنه لم يكن أبدا مع بهجت فسادا، ربما كان عذابا، وعلى الرغم من أنهم يقولون إن الشراب يظهر ما في النفس من شرور فلم أر في نفس بهجت شراً واحداً، أو نقيصة مشينة، يقول لي عندما أدخل في أنفاقي: "أنت المنتحر الحي" والغريب أننا كنا نضحك.
وطني، مصري، عربي، متطرف، متطهر، مزايد، لا يرى سوى أبيض وأسود رغم عشقه وفهمه للألوان، صنع لنفسه نشرة أخبار خاصة به، وتعلي قومي على ما يذاع في الراديو والتلفزيون، وأزعم أن نشرته جيدة واسعة الانتشار.
رغم مرض السكر المتوحش الذي سكن جسده مبكرا فإن معجزة بهجت كانت قدر النشاط والحيوية التي ظل محتفظا بها حتى النهاية، حضوره وأداؤه الشخصي الفريد الذي ينبع من رغبة أصيلة في إسعاد الآخرين وتوصيل البهجة إليهم، يصيح بهجت في بيتنا، بعد الفجر بقليل: "عم بكير.. بياع الفطير" حاملا للأولاد ولنا فطيراً ساخناً محلى بالسكر، من في الحياة سيمنحنا هذه البهجة مرة أخرى، أحسب أن رحلة بهجت كانت محاولة لأن يعود طفلا صفحته ناصعة البياض.
من أهم الأشياء في رحلة بهجت هو زواجه المبكر من بدر حمادة الفنانة صانعة العرائس التي صنعت مع ناجي شاكر أجمل أيام مسرح العرائس المصري. صممت بدر أيضا حياة بعجت وبيته وأولاده هشام ووليد الذين صنعا على عيون الفن والمحبة، في بيت من أجمل البيوت المصرية التي دخلتها.
راقبت جسده يزداد نحولا، وروحه تزداد احتراقا لكي يفعل شيئا، لكنه كان دائما واحة، لم يكن كل هذا أبدا سراباً. من كلمات بهاء التي بقيت معه "كفاية دوشة بقى".
أكثر الإخوة العرب الذين عرفتهم في حياتي عرفتهم عن طريق بهجت. من أغرب التجارب التي مررت بها مع بهجت هي تجربة التنظيم الطليعي، فقد جمعتنا رفقة لفترة هناك، كان بهجت يسميه "الكعك" نسبة إلى علب الكحك التي صاروا يوزعونها علينا في المناسبات، كانت محنة، كشفت لنا أن في واقعنا أقواما من الانتهازية والوصولية، والمصالح المادية المجردة ما شاب له الفؤاد وشعر الرأس، ظل بهجت يتابع عن قرب ذلك المسلسل الغريب المضحك، يراقبه وهو يتصاعد حتى يسيطر على كل شيء.
شغفه بالقراءة لا أستطيع أن أنسى الكتاب الذي قدمه لي بهجت بعنوان "مديح الظل" يحكي تجربة دخول الكهرباء إلى قرى ومدن اليابان. كان يتحدث عن الصفحات وعما فيها، فترى كم هي صافية روح هذا الكائن ورحبة. امنحه هو بعضا من الرضى عن النفس الذي ظل يبحث عنه طوال عمره، رب أدخله بسلام إلى محبتك".
حين نشرت اللقاء الذي دار بيني وبين الأستاذ بهجت عثمان في صحيفة (الجيل) ختمته قائلاً: "سريعاً انتهت اللحظات التي شربت فيها ولم أرتو من نبع عم بهجت المتفجر إبداعاً وفناً وحيوية، تركته مع الأسف متأرجحاً بين الإحباط والبهجة، والأمل والخوف، لكنني قلت لنفسي وما الجديد في هذا، أليس هذا سِلو بلادنا العربية التي ينعم فيها بهجاتوس وحده بينما يشقى أهل بهجاتيا أو أبناء الجالية العربية في الوطن العربي أو المصريين المغتربين بمصر كما يدعوهم عم بهجت الذي نتمنى أن يشفي الله عينيه الغاليتين لتعودا أكثر صفاء ووضوحاً، ويواصل نبع البهجة تفجره من أجل "بعد بعد بعد غد أفضل".
طيب، ماذا يمكن أن نفعله الآن بعد كل هذه السنين التي انتظرنا فيها ذلك الغد الأفضل، وحاولنا جاهدين أن نعمل من أجله سوى أن نواصل العمل من أجل "بعد بعد بعد غد أفضل"؟