يوم عيد سعيد مع بهاجيجو (1/4)

12 ابريل 2021
+ الخط -

لم يكن هناك ما هو أجمل بالنسبة لي من أن أقضي يوم عيد الفطر مع واحد من أبطال طفولتي وصباي وشبابي، الفنان الكبير بهجت عثمان الشهير ببهاجيجو، الذي زرع البهجة في قلوب ملايين الأطفال العرب الذين تربوا على إبداعاته هو ورفاقه الأفذاذ حجازي وإيهاب شاكر ومحيي الدين اللباد وغيرهم من الذين كتب عنهم كتابه الجميل (رفاق سلاح)، والذي أخذ أيضاً برسوماته الكاريكاتيرية المبدعة والذكية ثأر أهالي الجالية العربية بالوطن العربي من حكومة (بهجاتيا) العظمى و(بهجاتوس) أشهر طغاة العالم.

الصورة
بهجت عثمان

كنا يومها في يناير عام 1999 وكان ذلك واحداً من الأعياد القليلة المبهجة في حياتي، أنا الذي لا أحب الأعياد مثل صديق عمر بهجت الساخر الكبير محمد عفيفي الذي كنت قد أعدت قبل أيام من لقائنا نشر مقال قديم له يهجو فيه الأعياد والمحتفلين بها، ولم أكن أعلم وقتها أن إعادة نشر مختارات من كتابة محمد عفيفي أو "عِفّو" في الملحق الساخر الذي كنت أنشره في شهر رمضان في صحيفة (الجيل) حديثة الصدور، كان من أهم الأسباب التي جعلت الأستاذ بهجت يوافق على لقائي والحوار معي، وهو المنقطع عن الحوارات الصحفية منذ سنوات والراضي بعزلته منذ توقف عن رسم الكاريكاتير السياسي في أوائل التسعينات متفرغاً للفن التشكيلي والرسم للأطفال، أملاً في "بعد بعد بعد غد أفضل" طبقاً لشعاره الشهير.

"هنعيّد سوا ونفتكر عفّو الجميل فنهرب من كآبة العيد شوية"، قالها لي الأستاذ بهجت وهو يحدد عصر أول أيام العيد موعداً للقائنا، وأوصاني ألا أتأخر لأنه سيذهب في المساء مع صديقه السيناريست الكبير محسن زايد لزيارة أستاذنا أسامة أنور عكاشة في منزله، وكان في الصباح قد ذهب لزيارة شقيقته في الزمالك، ثم زار بعدها أستاذه الفنان التشكيلي الكبير بيكار وقدم له آخر إبداعاته التي أنهاها قبل أن يستحكم المرض في عينيه، وهي مجموعة لوحات تقدم معالجة بصرية رائعة للأمثال الشعبية المصرية المتعاطفة مع البنات بشكل خاص والنساء بشكل عام، ليتم جمع هذه الأمثال التي اكتشف أنها قليلة جداً، وكانت قد صدرت في تقويم حائط أو نتيجة أصدرها مركز التنمية والنشاطات السكانية وقام بتوزيعها لتحمل التفاؤل بمطلع آخر أعوام الألفية الثانية، والأمل في ألفية ثالثة أحنّ على النساء والبنات، اللواتي اختار لهن بهاجيجو أمثالاً مثل "البنت نوارة البيت ـ اللي يسعدها زمانها تجيب بناتها قبل صبيانها ـ أبو البنات مرزوق ـ إن كان بدّك تصون العرض وتلمّه جوِّز بنتك للي عينها منه"، إعلاناً عن تضامنه معهن ومحبته لهن.

الصورة
أبو البنات مرزوق

قبل أن أتصل بالأستاذ بهجت كان صديقه وزميله أستاذي علاء الديب قد حكى لي عن تدهور إبصاره في الفترة الأخيرة بعد أن حدثني عن إعجابه بما أكتبه في صحيفة (الجيل) وقبلها في صحيفة (الدستور)، فظننت أن لقائنا سيكون هاتفياً فقط، لكنني حين حدثته وجدته في غاية الحماس للقائنا الذي تحددت طبيعته الضاحكة والصاخبة قبل أن يبدأ، وحين سألته: "تسمح حضرتك تديني العنوان"، رد بجدية: "بس ترجعهولي تاني عشان ما أتوهش عن بيتنا"، وبادر بالضحك على القفشة التي أربكتني في البداية، وبعد أن أعطاني اسم الشارع ورقم العمارة أضاف: "أول ما تدخل من الباب هتلاقيني في رابع كنبة على إيدك اليمين"، ثم قال منبهاً إن ميدان الباشا الذي سأنزل في محطته حين أصل إلى المنيل "الباشا ده بقى هو عمك حجازي الرسام، لإنه ساكن على يمين الميدان وأنا ساكن على الشمال، بس عشان هو أقدم مني سمّوا الميدان باسمه"، فأعطاني بذلك سبباً إضافياً لمحبة ذلك الجزء من حي المنيل الذي عشت فيه بعضاً من أحلى أيام عمري حين كنت طالباً في جامعة القاهرة.

حين استقر بنا المقام على كنبة الحكم الوثيرة في مقر القيادة البهجاتوسية، ووسط أجواء زكية الرائحة زادها جمالاً صوت معشوقته فيروز الذي يدور في الخلفية، كان لا بد مما ليس منه بد وهو السؤال عن صحة عم بهجت وصحة الأخبار التي نشرت قبل لقائنا بأيام عن اشتداد مرضه، فقال عم بهجت إن المرض الذي أصاب عينيه اتضح أنه يحرمه مع الأسف الشديد من رؤية مركز الأشياء بينما يمكنه رؤية جوانبها، وهو ما يجعل مزاولته للرسم مستحيلة، معلقاً على ذلك بضحكة عريضة قال بعدها: "قلت لهم أنا عايز العكس يا جماعة، مش عايز أشوف اللي حوالين الحاجات، عايز أشوف مركز الحاجات، عايز أشوف يا دوبك سن القلم على الورقة، لكن حظي طلع بالعكس"، ولكي يتمكن عمنا بهجت من كتابة إهداء محدود الكلمات على كتابه (حكومة وأهالي) استخدم عدسة ضخمة يسميها ساخراً (الميكروسكوب).

الصورة
إهداء من بهجت عثمان

ومع إن بهاجيجو لف على كل أطباء العيون الكبار في مصر إلا إنه لم يجد لديهم عُقاداً نافعاً، خاصة أن أغلبهم أشار عليه بضرورة العلاج في الخارج، وحين زرته كان قد تلقى خبراً مبهجاً بصدور قرار بعلاجه على نفقة الدولة في الخارج وبالتحديد في مستشفى مورفيلد بلندن التي كان رئيس الوزراء السابق د. عاطف صدقي قد عولج فيها قبل ذلك وأشاد في العديد من حواراته بمستواها، وبعكس قرارات كثيرة، كان قرار العلاج قد صدر سريعاً بشكل كان يجب أن نشكر عليه الدكتور كمال الجنزوري رئيس الوزراء ووزير الثقافة فاروق حسني، وقد علمت من الأستاذ بهجت أن الفضل في ذلك يرجع إلى أصدقائه المخرج الكبير توفيق صالح ـ رفيقه في شلة الحرافيش ـ والروائي الكبير بهاء طاهر والدكتور سامي منصور الذين بادروا فور علمهم بمرضه إلى السعي لاستصدار القرار، وقد تأثر الأستاذ بهجت بموقفهم وبموقف الدكتور فوزي فهمي رئيس أكاديمية الفنون الذي لم يكن يعرفه بشكل شخصي، لكنه لعب دوراً كبيراً في تذليل العديد من العقبات البيروقراطية، فيصدر قرار السفر الذي كان يفترض أن يتم بعد لقائنا بأيام.

الصورة
حكومة وأهالي

كان الأستاذ بهجت ممتناً لكل هذه الجهود، ومتمنياً أن يحل العلاج في الخارج مشكلته الأبرز والأهم وهي عدم قدرته على الرسم والقراءة ليتحول إلى مثقف سماعي، وهو ما لم يكن يخطر له على بال، وهو القارئ النهم الذي لم يحزنه شيء مثل الابتعاد عن الورق "الفاضي والمليان"، وكان متعطشاً بشدة إلى أن ينتهي مشواره مع العلاج ويستعيد قدرته على الرسم، ليشعر أنه استعاد علاقته بالحياة التي تتلخص بالنسبة له في جانبين الأول حبه لمهنته التي كان يقول ساخراً إنها مكنته من أن يكون إنساناً محظوظاً يحصل على أجره أربع مرات، الأولى بعد أن ينتهي من الرسم، والثانية حين يشاهد عمله مطبوعاً، والثالثة حين يقول له أحد القراء: الله ينور، والرابعة حين يتقاضى أجره آخر الشهر. والثاني حبه لولديه هشام ووليد وزوجته وحبيبة عمره بدر حمادة التي تعرف عليها وهما في الجامعة، وبرغم الاختلاف الكبير في شخصيتيهما، هو يحب السهر وهي تنام من العاشرة مساء، هو مسرف وهي مدبرة، إلا أنه يعتبر زواجهما أسعد وأجمل تحارب حياته، يصفها في كل أحاديثه قائلاً "هي أمي وأختي وصديقتي وحبيبتي وزوجتي، وهي مشاعر لم تحدث في بداية حياتنا معا لكن مع الأيام، التي يجب أن أشكرها جزيل الشكر على هذه الهدية الرائعة".

الصورة
بهجت عثمان مع بدر حمادة في الزفاف

نكمل غداً بإذن الله.

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.