يوم عشرة وتوابعه

07 أكتوبر 2020
+ الخط -

"طيب، الساعة الآن الثانية ظهراً، واليوم هو العاشر من رمضان الموافق لليوم السادس من أكتوبر في عام 1973، أعلم أن السادس من أكتوبر كان يوافق يوم أمس، لكن معلهش نحن فيها، تخيل أنه اليوم، وتخيل أنك الآن تقف صائماً على شط القنال، تضع روحك على كفك، وتتأهب لاقتحام أقوى مانع عسكري في العالم، وتتلهف إلى اللحظة التي ترفع فيها علم بلادك على أرضك السليبة مستعداً لدفع حياتك ثمنا لذلك.

فجأة يأتيك هاتف شيطاني قادم من المستقبل ليوسوس إليك قائلاً إن الأرض التي ستبذل روحك من أجلها لن يستمتع بخيرها أبناؤك من بعدك، وأن بلادك ستصبح يوماً ما قابلة للتوريث كأنها متاع أو عقار، وأنها ستنسب إلى اسم حاكم كأنها مملوكة له، وأن الأراضي التي حررتها لن ينال خيرها أبناء الذين عبروا مثلك بل أبناء الذين هبروا، وأنك ستسحق خط بارليف لينسحق أبناءك تحت خط الفقر الذي صنعته بإصرار حكومات الفشل وانعدام الكفاءة والتخبط السياسي، وأن هناك أجيالاً سيسعى المنتفعون لكي يمحوا من ذاكرتها كل معاني الوطنية والعزة والكرامة، لكي لا يبقى من ذكرى الشهداء لديها إلا العرفان لهم لأنهم يزيدون رصيد تلك الأجيال من الإجازات.

ماذا ستفعل وقتها بالله عليك؟ أعلم أنه سؤال مرير مؤلم يفتح عمل الشيطان من قنوط ويأس وإيثار للسلامة، لكنني أعتقد جازماً والعلم عند الله، أنك لو كنت واحدا من أحفاد خير أجناد الأرض، وجاءك ذلك الهاتف اللعين، فإنك لن تستسلم له أبداً، بل ستفعل نفس ما فعله المقاتل المصري في يوم العاشر من رمضان، ستعبر الهزيمة وتستعيد أرضك مضحيا بروحك، ستؤدي واجبك وتفعل ما عليك، دون أن تفكر في مستقبل الأرض التي ستحررها، لأنك تعلم أن مسئوليتها في المستقبل ستتحملها الأجيال القادمة التي سيكون عليها أن تختار مصيرها بنفسها.

عندما تجد هذه الأجيال نفسها يوماً ما معرضة للهزيمة أمام جحافل الفساد والإفقار والتجهيل والتطرف والتوريث وسحق الإرادة؟ هل ستختار إرادة العبور أم ستفضل الاستسلام؟، أنت تعلم أن تلك الأجيال ستجرم في حق نفسها لو ظنّت أن صمتها وسلبيتها وطرمختها وعبثيتها سيجعلون حياتها أفضل، وأنها ستكون واهمة لو تصورت أن انكفاء أفرادها على حلول خاصة سيعبر بهم وببلادهم إلى بر الأمان، وأنها ستجرم في حق نفسها لو لم تدرك أن العالم تغير ولم يعد فيه مكان لحكومات مستبدة تطعم الشعوب من جوع وتؤمنها من خوف، ولا لشعوب تظن أنها تمتلك امتيازات إلهية خاصة تجعل الله تعالى يغير سننه من أجلها، وأنها إذا لم تتحرك لإنقاذ نفسها ستنهار وتفنى.

أنت أيها المقاتل المصري العظيم تعلم أن شعبك ليس شعب الله المختار كما يروج البعض، وليس شعباً محكوما عليه بالخنوع والذل كما يزعم الكثيرون، أنت تعلم أنه كأي شعب من مخاليق الله في دنياه الواسعة، عندما يواجه اختبار الفناء، ستستيقظ فيه غريزة البقاء، وسيختار الحياة بدلا من الموت، والتغيير بدلاً من الفناء، هذه فطرة الله التي فطر الناس عليها، لا تبديل لخلق الله، ولذلك ستدير ظهرك لوساوس الشيطان وستعبر، وأنت تدرك واثقاً أن فكرة العبور التي ستجسدها بدمائك ستكون وحدها الملهمة للأجيال التي ستليك إذا رغبت في الخلاص.

كل الكلام رخيص أمام الدم الزكي الذي سال على تراب سيناء، صدقني ما أسهل الكلام، ولكن صدقني ما أصعبه أيضا عندما تكون في حضرة دماء الشهداء، لذلك لا تنتظر مني اليوم أن أجيد الكتابة، تماما كما أنني لن أنتظر منك إكمال هذه المقالة المتعثرة المرتبكة المخنوقة.

لا أدري كم مرة قرأت هذه الرسالة، ولا أدري كم مرة ستقرؤها أنت، لكنني أدري أنني كلما قرأتها أجد نفسي أعيد من جديد تشغيل أغنية يوم عشرة لأنتشي بحلاوة الانتصار وأنا أستمع إلى سيد مكاوي العظيم وهو يتكئ على شعر فؤاد حداد

عارف؟، هناك خطوات كثيرة قطعتها الصحافة باتجاه الاتصال التفاعلي، كنت أتمنى لو كان من بينها أن أتوقف عن الكلام الآن، وأسمعك فورا صوت الفنان المصري الفذ المعجز سيد مكاوي وهو يشدو من كلمات والد الشعراء العظيم فؤاد حداد بأغنية من أغنيات ملحمتهما الخالدة "المسحراتي" اخترت لها على كمبيوتري اسم "يوم عشرة"، بعد أن أهداها لي الإنترنت الذي أنقذها من مجزرة محو الذاكرة المصرية، وها أنا أستمع إليها الآن وأنا أحاول أن أكون قد ما أكتب عنه، وأتمنى أن تصنع بنفسك جميلا وتنزلها من على الإنترنت، أظنك لو كتبت في (جوجل) اسم سيد مكاوي ستجد إليها سبيلا مثلي، بالله عليك اسمعها اليوم بعد أن تقرأ الفاتحة للأبطال الذين صنعوا النصر الذي ظللنا من ساعة تحققه، نحاول أن نمحوه، ومع ذلك لم ننجح تماما في سعينا، ولن ننجح بإذن الله.

اسمع مرة، وفي الثانية لا تكتف بالاستماع، خذ طبلتك أو قلمك أو لافتتك أو صنعتك أو هوايتك أو حرفتك أو خوفك أو أملك أو يأسك، وانزل به إلى شوارع المحروسة، وشارك سيد مكاوي وفؤاد حداد في سعيهما إيقاظ مصر والمصريين، وابدأ بنفسك أولاً: " اصحى يا نايم.. اصحى وحِّد الدايم.. وقول نويت بكره إن حييت.. الشهر صايم والفجر قايم.. اصحى يا نايم وَحِّد الرزاق.. رمضان كريم.. مسحراتي في ليالي السماح.. مِنَقّراتي وطبلتي بجناح.. ونَغَمي يِلف القلعة والسيدة.. والدنيا زي العَيِّلة مِعَيِّدة.. ونغم يلف القنطرة والعريش.. وعشت يوم فرحان بإني أعيش.. ونغم يدوب في مصر وحبها.. ست الجمال والحسن والأبهة.. وأدحرج الضحكة على الفدادين.. نغم على الجبهة يِحَيِّي الجنود.. يا بدر من رمضان يا نور النبي.. يا كل أحلام الجدود قَرّبي.. اصحى يا نايم وحد الرزاق.. رمضان كريم.

يوم عشرة بالحرية والانتصار.. مصر الأميرة تِبَشّر الأمصار.. كل الولاد بيقولوا يحيا الوطن.. وأنا باغني وأقول شرارة بدر.. طاقة قدر.. المشي طاب لي.. والدق على طبلي.. ناس كانوا قبلي قالوا في الأمثال.. الرجل تدِبّ مطرح ما تحب.. وأنا صنعتي مسحراتي في البلد جوال.. حبيت ودبّيت كما العاشق ليالي طوال.. وكل شبر وحتة من بلدي.. حتة من كبدي حتة من موال.. أنزل لكم في الندى والطل أتنسم.. للضي أضحك لكم.. في الضلمة أتبسم.. نغم المحبة بيجمع لما بيقَسِّم.. ولا أبطل غنا ولا أبطل التسحير.. بقلبي طول السنة وبطبلتي موسم.. اصحى يانايم.. يانايم اصحى.. وَحِّد الرزّاق".

...

نشرت السطور السابقة في عام 2010 في عمودي اليومي (إصطباحة) بصحيفة (المصري اليوم) في ذكرى يوم العاشر من رمضان، يوم العبور المجيد، التي وافقت في ذلك العام يوم 21 أغسطس، وبعد النشر توالت علي العديد من المكالمات والرسائل المرتبطة بما كتبته، والتي أعتقد أن قراءتها ستهمك من باب التوثيق والتأمل، وقد اخترت أن أنشرها في مقال بعنوان (بركات يوم عشرة) قلت فيه ما يلي:

"منذ أن أصبحت رجلا واقعيا يحاول ألا يكون وقوعياً، وأنا أكتفي بالسعي إلى الانتصارات الصغيرة. لم أعد مشغولا بانتظار الانتصارات الكبيرة. لأنني أصبحت أثق في أنها لن تتحقق أبداً وأنا على قيد الحياة. عندما كنت أحلم بأن أكون كاتباً، كنت أظن أن الكتابة يمكن أن تُغَيِّر العالم، ثم اكتشفت مع مرور السنين أن الكتابة في المجتمعات التي لا تقرأ، لا تُغَيِّر إلا الكتاب، أحياناً تغير أوضاعهم المادية، وأحيانا تغيرهم على بعض، أحياناً تجعل بعضهم أسوأ، وأحيانا تجعل البعض الآخر أقل سوءاً، وفي حالات نادرة تجعل البعض منهم يتصالحون مع حقيقة مفادها أن لا أحد كامل، دون أن يحولهم ذلك إلى "ناس ناقصة".

برغم إدراكي لذلك، لم أفقد حبي للكتابة ولا إيماني بها، رغم أنني ظننت أنني فقدت ذلك الحب وذلك الإيمان عندما طلقتها لسنوات وأنا أظن أنه طلاق لا رجعة فيه، وأنني أخيرا سأرتاح، فما زادني ذلك الفراق إلا رهقاً، لأكتشف بعد لأي أن الكتابة هي السبيل الوحيد في الأوطان التي لا تقرأ لجعل الحياة محتملة، فعدت لأطلب رضاها وأعلن حبي لها وإيماني بها، وعندما صالحتني الكتابة تصالحت مع نفسي ومع الدنيا، ومنذ ذلك الحين والكتابة بفضل الله تنعم عليّ بالانتصارات الصغيرة، ولا تحرمني منها أبدا.

إذا كانت الكتابة لن تغير العالم، ولن تطيح بالمستبدين من على عروشهم، ولن توقف نهب الفاسدين لثروات الوطن، ولن تنهي هوس المتطرفين دينياً بالوصول إلى الجنة من خلال قهر المختلفين معهم، فهي يمكن أن تهدي إلى قارئ من القراء كتاباً أو رواية أو أغنية أو قصة أو حدوتة أو معنى أو فكرة أو ابتسامة أو شجناً أو حزناً نبيلاً أو هلساية لطيفة، فيهدي هو بدوره للكاتب الذي يحبه تحية وسلاما ينزلان على قلبه بردا وسلاما، ويجعلانه يشعر بحلاوة الانتصار، وما أحلى الانتصار ولو كان صغيرا أو حتى قصير المفعول، وهل يعرف حلاوة الانتصار إلا المهزومون؟

أحب وأحدث الانتصارات الصغيرة إلى قلبي حققته بعد أن نشرت منذ أسبوعين مقالا بعنوان (يوم عشرة) أحتفي فيه بذكرى العاشر من رمضان المجيدة، وأستعيد قطعة فنية رائعة أبدعها العظيمان أبو الشعراء فؤاد حداد وعم الملحنين سيد مكاوي ضمن عملهما الملحمي الخالد (المسحراتي). وبعد ساعات من احتفالي بذكرى الانتصار الأكبر في حياتنا جاءتني الانتصارات الصغيرة تتوالى: رسائل من شباب وشابات تشكرني وتحييني لأنني كنت دالاً على الخير عندما نصحت بالبحث عن تلك المقطوعة العظيمة على شبكة الإنترنت، وهو ما قام به الكثيرون وشاركوني الاستمتاع والفخر بها، أكثر الرسائل التي هزتني كانت رسائل مكتوبة بالإنجليزية وبالأنجلو آراب من شباب وشابات يعتذرون لي لأنهم لا يجيدون الكتابة بالعربية على الكمبيوتر، ويطلبون مني ألا أظن أن ذلك لا يعني عدم انتمائهم لوطنهم أو حبهم له أو عدم أساهم على ما وصل إليه حال هذا الوطن، ويشكرونني لأنهم بعد أن استماعهم إلى أغنية يوم عشرة قاموا بتحميل كل ما وجدوه على شبكة الإنترنت من أغاني المسحراتي ومن أغاني سيد مكاوي العظيم، الذي شعرت بالفخر لأنني رددت له نزراً يسيرا من جميله، فقد كان صوته الجميل أول صوت شبكني بعالم الغناء بعد أن عشت سنين طويلة محروما منه بدعوى حرمته، وتلك قصة أخرى لها يوم آخر تروى فيه.

أغلب الإيميلات والرسائل التي جاءتني من أولئك الشباب كانت تحمل سؤالا مريرا هو "هي الحاجات العظيمة دي مستخبية عننا ليه.. ليه ما بنسمعش عنها.. ليه ما بنشوفهاش في التلفزيون؟"، وهو سؤال وجدته حاضراً أيضاً في مكالمة جميلة جاءتني من السيدة الفاضلة زينات زوجة الفنان العظيم سيد مكاوي، والتي أسعدني زماني بمعرفتها فانبهرت بثقافتها وذائقتها الفنية ووعيها المدهش وقبل ذلك وبعده بحبها المتدفق دائما وأبدا لزوجها العظيم، كنت أقصد إسعادها وأنا أحكي لها عن الإيميلات التي جاءتني من الشباب الذي لا يعرف قيمة إبداع سيد وفؤاد، فوجدتها تسألني بأسى: "طيب ممكن توجه على لساني سؤال للمسئولين بتوع الإعلام إذا كانوا يعني مش حابين إنهم يذيعوا المسحراتي بصورة سيد مكاوي مش ممكن يعيدوا إخراجه برؤية فنية يعملها مخرج شاب واعي يقدم فكرة معاصرة تخلي الشغل العظيم ده يوصل للأجيال الجديدة"، كنت أريد أن أقول لها " ومين قال لحضرتك إنهم عايزين الشغل ده يوصل للأجيال الجديدة؟"، لكنني تذكرت أن على رأس اتحاد الإذاعة والتلفزيون المصري الذي يفترض به أن يكون حاميا لذاكرتنا الوطنية الآن رجلا اسمه المهندس أسامة الشيخ، أعرف وطنيته وثقافته ووعيه وأثق أنه لو قدم عملاً كهذا فإنه يمكن أن يصالح كثيراً من محبيه، الذين يستغربون بعض قراراته التي يبلعونها له على أمل أن يروه قبل أن تنتهي مدة خدمته، وهو يترك على الإعلام المصري بصمة ثقافية رفيعة كالتي تركها أثناء عمله في قنوات الإي آر تي ودريم، هذا إن صحت المقارنة أو كانت عادلة.

مع مرور اليوم لم تتوقف الانتصارات عن التوالي، كنت أتمنى أن يتسع المقام لاستعراض كل الرسائل التي جاءتني لعلها تبل ريق القارئ الظامئ كما بلت ريقي، وتنعش فؤاده كما أنعشت فؤادي، فكرت وبصرت كثيرا، ووجدت أن هناك ثلاثة رسائل لا يمكن أبدا أن أتجاهل نشرها، لأنها تمثل بشكل أو بآخر إجابة على السؤال المرير الذي طرحته في مقالي: "لو كان ابطال يوم العاشر من رمضان قد اطلعوا على ما يحدث في مصر الآن من فساد واستبداد وفقر وتوريث وتجهيل وفتنة طائفية هل كانوا سيواصلون العبور أم لا".

الرسالة الأولى جاءتني من الأستاذ عمرو عبد الفتاح وبرغم ما بها من مرارة إلا أنها تحمل بداخلها قدرا كبيرا من الأمل أتمنى أن يصلك كما وصلني وأنا أقرأ سطورها النابضة بحب مصر.

تقول الرسالة: "عزيزي بلال قرأت مقالتك عن العاشر من رمضان فانسابت مني الدموع بلا توقف وأخذت في الحسبنة عليك، منك لله يا شيخ، فلقد أثار ما كتبته جراحا أحاول مداراتها بالنسيان تارة ومحاولة الاتصال بذوي الفكر تارة أخرى. ما دفعني للكتابة إليك أن ما كتبته كان محور نقاش مؤلم مع زوجتي الأسبوع الماضي فقط أثناء جولتنا السنوية لزيارة سيناء حتى نزرع في ولدينا (عمرهما خمس سنين وسنتين) مشاعر العزة بوطنهما راجين الله ألا تزول هذه المشاعر عندما يكبران. واسمح لي أن أروي لك مفارقتين موجعتين أثناء تجوالنا، بدأنا اليوم بزيارة موقع عيون موسى الحصين وأحلف لك أنني وجدت نفسي أتعلم أكثر مما أعلّم إبني الأكبر، لما وجدته هناك من رؤية مدى إيمان الصهاينة بعقيدتهم وبعلم بلادهم الموجود في كل مكان مع التوراة وغطاء الصلاة، المهم أنني وأنا أحدث ابني أدهم عن ثمن الأرض ومكانة العلم، نظرت حولي داخل الموقع لأريه المكان المميز الذي وضعنا فيه علم مصر الحبيبة ودفعنا فيه الدم، لم أجد العلم، أيوه والله لم نجد علما لمصر على الموقع، ولما سألنا قالوا إنهم شالوه عشان بيتقطع من الهواء، المهم جررت أذيال الكسوف من إبني وتوجهنا جميعا إلى مقابر شهداء الجيش الثالث حتى نشكرهم على ما بذلوه كما قلت لأدهم ولنقرأ لهم الفاتحة، وبالفعل توجهنا إلى هذا المكان المهيب والذي أنقذتني فيه نظارتي الشمسية من أن يراني أبنائي أبكي وأنا أبوهم الصعيدي اللي ما يتكسرش، اللي بكاني يا عم بلال هو بالضبط اللي انت كتبته، إن زهرة شباب مصر ملازمين وملازمين أوائل وعيال وأبطال دفعوا دمهم عشان ولاد الكلب ينهشوا في لحم بلدنا. الدرس التاني لما نلف في المقابر نلاقي قبور لشهداء من الكويت والمغرب والجزائر، قلت لنفسي: الجزائر ياااه، هم صحيح شهيدين بس، لكن يعني أهوه دمنا واحد وعدونا واحد، وكل ده راح في ماتش كورة. خرجت من المقابر وأنا أقول: جتنا نيلة كل اللي بنعمله، قاعدين نولول. عموماً كل سنة وانت طيب وكل ذكرى يوم عشرة ولسه موجود مسحراتية أصلي مثلك". انتهت الرسالة لأقول لنفسي: طالما ظل هناك مواطن مصري حريص على أن يذهب بأولاده الصغار لزيارة مقابر الشهداء سيظل هناك أمل في هذه البلاد، لكن ذلك الشعور بالأمل قادني إلى سؤال سألته لنفسي: بعد أن حققت هذا الانتصار متى ستذهب ببناتك لزيارة مقابر الشهداء فتحقق انتصاراً آخر؟ أتمنى أن تطرح هذا السؤال على نفسك أيضا.

الرسالة الثانية التي اخترتها لك كانت رسالة موجعة في سعيها للإجابة على السؤال المرير الذي طرحته في مقالي، وقد جاءتني من المهندس حسام الدين مصطفى وقال فيها: "مقالتك الأخيرة عبرت عن الوجع اللي جوايا بدقة متناهية، أنا واحد رُبيت على يد واحد من جنود حرب "يوم عشرة" هو خالي المهندس  على محمد على سكران، كنت و مازلت أستمع و أستمتع بما كان يرويه لي و لأبناء إخوته عن "سيمفونية – يوم عشرة" و عن الشهداء رفاقه اللي ماتوا أمام عينيه في "ثغرة الدفرسوار" وعن جُبن الصهاينة و خوفهم من أن يدخلوا عليه الخندق في الوقت اللي كان لوحده بعد استشهاد كل زملائه و بسلاح خفيف و مع ذلك خرج أمامهم ولم يروه. عارف؟ خالي ده تعرض لظلم بَيّن سنة 1992 من مدير هيئة كان يعمل بها خالي مديراً لصيانة السيارات بالمركز الرئيسي بالقاهرة حيث كشف أتوبيسات تم توريدها على أنها مستوردة وجديدة ويا للأسف كانت مستعملة وتم تكهينها، رفض وكتب تقرير مُفَصَل ـ خالي حاصل على ماجستير فى محركات السيارات من جامعة عين شمس حيث تخرج فيها مهندساً ـ موضحاً العيوب الفنية بدقة متناهية. فكان الجزاء استبعاده من اللجنة ونقله إلى مقر الهيئة في "مرسى علم"! ولما لجأ إلى قضاء مصر "العادل" وحصل على حكم ضد رئيس الهيئة، تم إيقاف تنفيذ الحكم لأن رئيس الهيئة عضو في لجنة "القِيَم"، وفى الاخر نقلوه معامل الهيئة في الدقي. خالي طلع "معاش" منذ 5 سنوات ولولا شقاه في السعودية لكان متلطم وهو أب لأربعة أولاد، الحمد لله إتجوزوا تلاتة منهم وفاضل واحد. لكن لسه عنده الحسرة وكسرة النفس على العمر اللي ضاع". بس والله لو تسأله دلوقتي لو الزمن رجع بيك لــ "يوم عشرة" وانت عارف إنك ها تروح "مرسى علم" في عصر ما قبل الــ بورتو. بدون تفكير يرد ويقولك ها أكرر اللي عملته وكمان أكتر. آسف للإطالة بس كنت عايزك تعرف إنك واصل لنبض شعب مصر الحقيقي وأرجوك تستمر على كده".

أما مسك ختام الانتصارات فأتركه لرسالة رائعة جاءتني من أحد أبطال حرب أكتوبر الأستاذ فريد أحمد السيد الضابط السابق بالقوات المسلحة ومدير عام بالمعاش قال فيها: "مهلاً يا بلال فلم تأت الساعة الثانية بعد.. الساعة الآن مازالت الحادية عشر ظهرا يوم السبت العاشر من رمضان السادس من أكتوبر سنة 1973، والمكان الموقع الهجومي لإحدى كتائب الدبابات بالجيش الثاني الميداني، وكنا نحن ضباط الكتيبة قد علمنا بموعد بدء الحرب أو ساعة س أو ساعة الصفر، كنت بحكم طبيعة عملي في الكتيبة قد علمت بساعة س من قائد الكتيبة الساعة التاسعة صباحا بعدما تلقاها في نفس التوقيت من قائد اللواء، وعرفنا أن ضربة الطيران الساعة 1405 يسبقها بخمس دقائق ضربة مدفعية وعرفنا مسلسل عبور دباباتنا الذي كان سيبدأ الساعة السابعة مساء، واجتمعنا في قيادة الكتيبة نتناقش ونتحاور وسط خليط من أحلى مشاعر ممكن يعيشها أي مصري على مر التاريخ على أرض المحروسة، مشاعر فرح وفخر تشوبهما بعض مشاعر القلق، عايز تعرف بقى كنا بنفكر وقتها في إيه بعد ما عرفنا أعظم سر في تاريخ مصر الحديث، كان كل عسكري وكل ضابط في جيش مصر المحروسة بيفكر وقتها فيما سيفعله عندما تجمعه المعركة بالعدو الذي أعماه غروره وغطرسته عن تقدير قوة وعظمة المقاتل المصري العظيم، كنا كلنا بنفكر في إنه قد آن الأوان لنسترد لمصر عزتها وكرامتها ومجدها بعد ست سنوات من الذل، كنا بنفكر في فرحة المصريين عندما يذاع عليهم البيان الأول، تخيلنا فرحتهم في الشوارع والبيوت في المدن والقرى والنجوع، توقعنا زغاريدهم ودعواتهم لنا عندما يتأكدون من عبورنا القناة، فكرنا فيما سيقال في البيان الأول الذي أجمعنا أنه سيشير إلى اعتداء إسرائيلي على قواتنا بادرنا بالرد عليه، قلنا لبعض هتكون كذبة؟ وماله، دي حتبقى أشرف كذبة في التاريخ، ياما إسرائيل كذبت على العالم، والعالم صدقها، جلسنا نفكر في المجد الذي سنحققه للمحروسة في هذه الحرب إذا انتصرنا، وأخيرا تعاهدنا قبل أن تأتي الساعة الثانية ظهرا على النصر أو الشهادة في هذه المعركة، ولم نفكر للحظة فيما سينتاب آباءنا وأمهاتنا من حزن عندما يبلغهم نبأ استشهاد أحد أبنائهم، ولا أخفي عليك سرا أنه  عندما طاف بخاطري شرف الاستشهاد في هذه المعركة، كنت على يقين من أن أصدقائي: مسلم وشامل وجلال وصبري ورضا ومجدي وبدران وعبده والسيد الأفريكي، كانوا سينظمون سنويا في قريتي بالشرقية دورة على كأس تحمل إسمي مسبوقا بكلمة الشهيد، وهو ما أكده لي أصدقائي بأنفسهم في أول إجازة بعد الحرب.

أما وعندما جاءت الساعة الثانية ظهرا، فقد بدأنا نستمع ونستمتع بأحلى سيمفونية لأصوات محركات الطائرات الميج في دشمها بالمطار الحربي المجاور لموقع كتيبتنا وهي تبدأ في الدوران للتسخين استعداداً للانطلاق، وبالمناسبة كان قد صدر في نفس اليوم أمر قيادة يلزم جميع القوات بالبقاء تحت الأرض قبل بدء العمليات تحسبا لضربة إجهاض قد تقوم بها إسرائيل، أمر قيادة إيه يا عم وانت شايف طائرات مصر بطياريها الأبطال تمرق كالصاروخ على ارتفاع منخفض من فوق رأسك مباشرة تتجه صوب الشرق إلى أرض الفيروز، ليتني كنت أديبا بارعا لأصف لك فرحة العساكر والضباط وتهليلهم وتكبيرهم بأعلى صوت في حناجرهم للطيارين وهم فوق رؤوسهم، قائد كتيبتنا خرج عن وقاره وخلع سترته وأخذ يلوح بها للطيارين صارخا بأعلى صوته "اضربوهم.. احرقوهم"، قائد كتيبتنا هذا كان من المفترض لإجراءات أمنية أن يكون مسلسل عبوره بدبابته رقم عشرة يوم عشرة، فإذا به يقول أمام ضباط وعساكر الكتيبة عندما وصلنا إلى المعابر "عليا الطلاق ما حد يحط رجله على أرض سينا قبلي"، وفي أثناء العبور لم يكن العساكر والضباط ينتظرون وصول المعدية للشط الشرقي ورسوها، بل كانوا يتسابقون في القفز بكامل ملابسهم للسباحة في مياه القناة للوصول أسرع من غيرهم إلى أرض سيناء التي حرروها بدمائهم الزكية. بعد هذا الاختصار لبعض مشاعر وبعض أفكار وبعض خواطر جيل أكتوبر العظيم يوم عشرة، أعتقد أنك تتفق معي على أن أي وسواس مستقبلي أو مستهبلي كانت سولت له نفسه الاقتراب من فكر أي ضابط أو عسكري في هذا اليوم المجيد كان مصيره سيكون صاروخ سام 6 يسقطه كالجراد، مثلما حدث لطائرات إسرائيل الفانتوم والميراج. جيل أكتوبر العظيم يا بلال يا ولدي يعيش من يوم عشرة تلاته وسبعين حتى يوم عشرة ألفين وعشرة شبعان فرح وحب ومجد واعتزاز، فخوراً بما قدمه لمصر المحروسة التي لا فضل لأحد عليها بل فضلها هي على الجميع، عموما نشكرك أنك تذكرت يوم عشرة، بس ياريت السنوات القادمة تتذكره في نفس يوم عشرة لأنه سيظل اليوم الأنصع في تاريخ مصر الحبيبة".

لا أدري كم مرة قرأت هذه الرسالة، ولا أدري كم مرة ستقرؤها أنت، لكنني أدري أنني كلما قرأتها أجد نفسي أعيد من جديد تشغيل أغنية يوم عشرة لأنتشي بحلاوة الانتصار وأنا أستمع إلى سيد مكاوي العظيم وهو يتكئ على شعر فؤاد حداد ويجوب شوارع المحروسة مبتهجاً بالنصر وصادحاً لمصر: " والدنيا زي العَيِّلة مِعَيِّدة.. ونغم يلف القنطرة والعريش.. وعشت يوم فرحان بإني أعيش.. ونغم يدوب في مصر وحبها.. ست الجمال والحسن والأبهة.. وأدحرج الضحكة على الفدادين.. نغم على الجبهة يِحَيِّي الجنود.. يا بدر من رمضان يا نور النبي.. يا كل أحلام الجدود قَرّبي.. اصحى يا نايم وحد الرزاق.. رمضان كريم".

...
سأترك لك التعليق على ما كنا نعيشه ونشعر به، وما أصبحنا نراه ونفكر فيه.

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.