يوسف عبد الحميد.. من السياسة إلى المقاومة فالطبيعة
أن تقع على مذكرات رجل عاش أكثر من ثمانين سنة تحت هذه السماء، وتطلع على حصيلة تجاربه في الحياة، لهوَ أمرٌ جميل إن لم يكن فيه شيء من الحظ.. وهو ألا تنتظر حتى تختبر تجارب كثيرة، بل تجد من يمنحك النتيجة دون خسائر، وإن كنّا أحياناً لا نقبل إلا بخوض التجربة حتى نتعلم.
مؤخراً، صدرت سيرة ذاتية لـ"يوسف عبد الحميد"، تحت عنوان "دفاتر حارس البحيرة"، من إعداد باسل عليا، عن دار دال للنشر والفنون. تتحدث عن حياته هائماً في طبيعة اللاذقية، ومسافراً لأجل العمل السياسي والثقافي. وهو الذي ولد عام 1939 في حارة الشيخ خليل المطلّة على النهر الكبير الشمالي، وعاش فيها حتى شبابه وتوفي عام 2020 في بيته الذي بناه على ضفته الشرقية. لم يسعَ إلى نشر كتبٍ في حياته، لكنه ترك خلفه دفاتر كثيرة امتلأت بنصوصه الأدبية نثراً وشعراً، ضمت أحداثاً ورؤى وأحلاماً ونقداً وحكايا تحتاج إلى عمرٍ طويل لنعيشها.
في قرى اللاذقية، أمضى "زمن البراءة والدهشة والخطوات الأولى"، وامتزج جسده وروحه بجبالها وغاباتها، ومدحَ أناسها وتفاصيلها: "كلُّ ما حولنا صديقٌ لنا.. ونحن نصنعُ تاريخاً جميلاً، سنظلُّ نندبُهُ إلى أن نموت".
تبدأ مذكراته من طفولته التي لعبت فيها أمه دوراً مهماً كامرأة قوية حنونة مسؤولة ومضيافة، في عائلة يشغلها الدين المليء بمحبة الله، والعمل، حيث يقول: "نعمل في الصباحات الباكرة كي نرى الندى والبراعم. يا إلهي نحن نعمل مثلك، نحن لا نكف عن الخلق والنبض والجمال والتوق!".
بعد المرحلة الثانوية، صار قيادياً في حزب البعث، فأُرسل للعمل في السفارة السورية (الملحق الثقافي) في روما. انتقل بعدها إلى بغداد التي عشقها، ومنها إلى تركيا التي فُتنَ بعظمتها قائلاً: "أية أبّهة هي إسطنبول".
لخمس سنوات عاش حياته مع الفلسطينيين هناك، مهتماً بالقضية الفلسطينية، يكتب المقالات عنها، بعد مدّه يومياً بالوثائق الهامة حولها
وبعد ذلك عمل في السفارة السورية في مصر، وصادق حينها السفير الدكتور سامي الدروبي، وتعرّف على كثير من الأدباء والسياسيين الذين تركوا أبلغ الأثر في روحه. وكتب عنها: "في مصر ثمّة تقاليد عريقة في التعامل مع الصحافة؛ فالناس جميعُهم يقرؤون الصحف، بدءاً من البواب وحتى المثقف". و"الشعب المصري هو شعب الطيبة والبراءة؛ ومن الجنون أن نتعرّف عليه من خلال السياسة، والرعاع".
في بداية السبعينيات، وبعد الانقسام الذي حدث في حزب البعث العربي في سورية، جاء قرار فصله من الحزب، وجرت ملاحقته من قبل المخابرات السورية، لفترة من الزمن، وكان حينها ما زال في السفارة المصرية، فعاد إلى سورية واختبأ لدى أقاربه ومعارفه.
هرب بعدها إلى تركيا ومنها إلى الجزائر، ثم لبنان حيث تفرّغ للعمل الثقافي الإنساني، فعمل في قسم التحرير في إذاعة "القدس برس" التابعة لجبهة التحرير الفلسطينية، وكان يكتب افتتاحية المجلة في كلّ عدد ويذيّلها باسم "نبيل إبراهيم".
لخمس سنوات عاش حياته مع القضية الفلسطينية، يكتب المقالات عنها، بعد مدّه يومياً بالوثائق المهمة.
انتقد "يوسف" السلطات العربية في حياته وفي كتاباته، لأنها تقزّم المواطن العربي وتشوّهه منذ الولادة
وعن إحدى اللحظات العصيبة، كتب: "كان رعب إسرائيل طاغياً لأنها وصلت إلى بيروت، ونحن (المقاومة) كنّا نعدّ العدّة للخروج، وخفنا أن تداهمنا في البيوت فأحرقنا وثائقنا التي تدلّ على أننا عملنا مع المقاومة الفلسطينية، إذ بلغ خوفنا ألا نستطيع الخروج وأن تطبق علينا القوات الإسرائيلية والكتائبية"، ويَذكرُ أنه بقي لنصف ساعة كامل وهو يرمي هذه الوثائق التي أرشفها لسنوات من فوهة تصل إلى الشارع.
ثم يصف الدمار الذي خلّفه قصف العدو الإسرائيلي في بعض شوارع بيروت، فيقول: "وقفت مذهولاً أمام قصف الكتب والمكاتب ودور النشر، عشرات من الأمتار المغطاة بالكتب، بناء ضخم انهار تماماً (...) لا يوجد شيء لم يتعرض للأذى".
انتقد يوسف عبد الحميد السلطات العربية في حياته وفي كتاباته، والتي تقزّم المواطن العربي وتشوّهه منذ الولادة: "لذلك لا تخشانا أميركا؛ فهي تعرف أن حركة الشارع العربي مُتكفَّلٌ بها من قبل الأنظمة" كما يقول.
تدخل الفلسطينيون لطلب العفو عن عبد الحميد فتمّ ذلك ضمن شروط، وعاد إلى وظيفته في مديرية الزراعة في اللاذقية (مدينته) بعد حياة من النضال السياسي والثقافي مليئة بالأحداث.
أحبّ عبد الحميد الفقراء، وعايشهم، وخَبِر طيبتهم، وآلمته عذاباتهم: "فالفقراء هكذا لا يملكون دائماً إلا القليل؛ ولكنهم أغنياء.. أغنياء بلا حدود بالآلام والأحزان"..
ولأصدقائه أثرٌ عميقٌ في حياته، وكثيراً ما قال عن الذين رحلوا منهم: "لن أدعهم يموتون"، فيتحدث عنهم وكأنهم أحياء، وكتب: "كلما هممتُ أن أضع رجلي في القبر أمسكني صديق".
تدخل الفلسطينيون لطلب العفو عن "عبد الحميد" فتمّ ذلك ضمن شروط
على الرغم من السنوات الطويلة التي مرّت عليه، إلا أنه بقي متعلّقاً بالحياة وعاشقاً لها في كلِّ ثانية: "لا نريد أن نموت جوعاً؛ نريد أن نموت حبّاً".
وحين بلغ الثمانين من عمره، كتب:
"الثمانون لعنة
لا أنتظر الموت،
أنتظر الحياة!"
آلمته الوحدة في شيخوخته، واستمرّ بركلِ حياة العجز والمهانة، وصار أكثر تعلّقاً بالأصدقاء، مترّقباً زياراتهم: "يفسَدُ الإنسان إن لم يحركه الإنسان"، كما تعلّق بابنته مايا بذرة قلبه "التي لم تفسد أبداً"، ودوّن لها: "هكذا الحزن؛ أن تكون وحيداً ككاهنٍ في معبد".
في فترة الشيخوخة، بات، ككلِّ إنسان، يفكر في موته أكثر ويكتب عنه: "أيتها الفراشة أنا عمّرت طويلاً، وملأت الدنيا أحزاناً، وأنتِ عمّرتِ قصيراً وملأت الدنيا جمالاتٍ وألواناً"، وأنهى: "إذا أردت أن تبرأ من أيِّ سقام، ازرعْ حبةَ قمحٍ وكُنْ سنبلةً أزلية".