يا ورد مين يشتريك
إنها أعياد صارت إلكترونية، بكثير من الورد الإلكتروني، والعواطف الإلكترونية.. جميلة، وقد تصلح في المستقبل لمعايدة أطفالنا وأحفادنا، لكنّي لا أعتقد أنها تصلح لنا الآن كثيراً، أو بشكل أدق، لا أعتقد أنها تصلح لي على الأقل.
أبي وأمي لا يملكان حاسوباً، ولا يعرفان ماذا تعني كلمة إنترنت، ولا كلمة "يوتيوب"، ولا كلمة "فيسبوك". وحين أبدأ بشرح هذه الأشياء لهما، أبدو أمامهما غريب الأطوار، يشردان عنّي عائدين إلى التركيز في شؤونهما الحقيقية.
ماذا يعني لي عيد الأم؟ وماذا يعني لي عيد الأب؟ إنّي أحبهما كثيرا (أمي وأبي)، لكن من دون أعياد كهذه، فالأعياد الحقيقية التي أعرفها أنا، هي العيد الكبير، وعيد الفطر، وشراء فواكه جافة، ولعب للأطفال في عاشوراء، دون حتى أن نعرف ما معنى عاشوراء بالضبط.
منذ سنوات، وأنا أحاول أن أتآلف مع هذه الأعياد لكن دون جدوى، أقرأ على "فيسبوك" معايدات كثيرة من أشخاص كثر بمناسبة عيد الأم، أو عيد الأب، أو عيد المرأة، أو عيد الشجرة، أو عيد وصول البشر إلى القمر، بينما يظلّ بيتنا طيلة ذلك اليوم هادئاً كأيّ يوم عادي. لا تدخل هذه الأعياد من نوافذ البيت مع أشعة الشمس إلى باحته الصغيرة.
أحياناً، أُهنّئ أمي بأحد هذه الأعياد فلا تُعيرني انتباهاً، إنّها متأكدة في أعماقها أنّي لا أقول سوى الترّهات. وحين أبدأ بالتفلسف، أو بالتحدّث عن أشياء لا تُلمس باليد ولا تظهر للعيان، تؤكد لي أنّي سأجن ذات يوم لا محالة، طال الزمن أم قصر. لا يمكنها أبداً فهم عيد دون "مسمن" و"بغرير" وحلويات وقفاطين وجلاليب وزغاريد ومعايدات متبادلة، عبر زيارات عينيّة بين أفراد العائلة والجيران.
لا تدخل هذه الأعياد الإلكترونية الافتراضية من نوافذ البيت مع أشعة الشمس إلى باحته الصغيرة
ما معنى عيد الأم إذاً؟ خصوصاً حين يقترن بالورد؟ حيث لا يوجد بائع ورد، أصلاً، في المغرب. لا يوجد بائع ورد في سوق الخضار، ولا في سوق القرية الأسبوعي، ولا في موسم من مواسم الصيف، حيث تقتصر الفرجة على "التبوريدة" و"الحلقة" و"لافوار"، وتقتصر المعايدة على الشواء وبعض الحلي "الفالصو" التي تساوي درهما مقابل خاتم وثلاثة دراهم، أو مقابل قلادة ودملج ضخم.
لا مكان للورد على مائدة العيد الكبير، ولا على مائدة رمضان، ولا على مائدة عيد الفطر، ولا بين فواكه عاشوراء الجافة، إذ لا لزوم له على الإطلاق، فالورد لا يُؤكل ولا يُشرب.
علاقتنا الوحيدة بالورد والأزهار هي شقائق النعمان على جنبات حقول بعيدة، تركناها هناك وجئنا إلى المدينة، حيث ليس سوى الإسمنت هنا. أو أزهار البابونج الجميلة، عبر غليها وشرب منقوعها ساخناً من أجل طرد الصداع. أو باقات ورد بلاستيكية في مزهريات بلاستيكية لتزيين صالونات ضيافة فقيرة، أو طاولات مقاهِ الشواء الفارغة في استراحات الحافلات، ورود بلاستيكية غبراء يبيض داخلها ذباب الشواء.
أما في شوارع المدينة، فإنّ علاقتنا الوحيدة بالورد، تكون عندما يزّينوا أحد الشوارع يوماً واحداً قبل مرور الملك، ثمّ يدوسونها بعد مروره، أو أن يعترض سبيلك بائع ورد، وفي يده باقة ورد حين تكون برفقة حبيبتك، أو خطيبتك، أو زوجتك، أو أختك، معتقداً أنّ أختك حبيبتك ليتسوّل بعض الدراهم عبر وردة ذابلة، محاولاً إحراجك أمامها. وحين تكون قد تجاوزت أنت وحبيبتك مرحلة الحرج، تطرده بتهذيب شديد: "شكرا لك لا نريد وردا". رغم ذلك يصرّ، فتضطر أن تحدّق فيه عابساً: "نحن لا نحبّ الورد، ولا علاقة لنا بالورد، ومنظر الورد يجلب لنا كوابيس أثناء النوم وحتى في اليقظة". رغم ذلك، لا يستسلم، يُلقي الوردة أرضاً بين قدميك، أو فوق الطاولة التي تجلسان حولها، ويخاطبك باستعطاف مستفز: "أعطني درهماً أكمل بها ثمن خبزة". تجيبه: "أنت تحتاج خبزة فقط، أما نحن فنحتاج خبزتين".
هذه هي علاقتنا الحقيقية بالورد: أن يرى العشاق بائع الورد فيهربون
ورغم ذلك تعطيه درهاً، أو درهمين، ليذهب بعيداً. يذهب مبتسماً بعد أن يأخذ الوردة أيضاً! ليبيعها لعشّاق آخرين. تتنفسان الصعداء لأنه غرب عن وجهيكما، تعانق حبيبتك لتقبّلها، فيأتي بائع ورد آخر. هذه هي علاقتنا الحقيقية بالورد: أن يرى العشاق بائع الورد فيهربون.
أما موسم الورد في قلعة "مكونة"، فلا أراه إلا في التلفزيون، ولم يسبق لي أبداً أن فهمته، أو زرته. يتهيّأ لي أنّ "مكونة" توجد في بلد آخر بعيد ومثلج، وأنّ ما يوجد حقاً في "مكونة" المغربية هو معتقل سرّي للمعارضين السياسيين. إذ لا يمكنني أبداً فهم مدينة ورد تُخفي داخل أريجها آثار معتقل رهيب.
أمي تصنع وتضع على البيت سطح أصصاً فخارية، وأنصاف قرب بلاستيكية فارغة، تزرع فيها نعناعاً وكزبرة وبقدونساً وحبقاً وفلفلاً صغيراً لاذعاً، وبابونجاً. النعناع يصلح للشاي والكزبرة والبقدونس يصلحان للطعام والفلفل فاتح للشهية، والحبق يصلح للنكهات، والبابونج دواء لكلّ داء. أما الورد فلأيّ شيء سيصلح؟
أهديت أمي وردة في عيد الأم. فأخبرتني بوضوح: "كان عليك أن تشتري لي بثمن هذه الوردة كحلاً أو سواكاً، ماذا أفعل الآن بهذه الوردة؟".
لا يمكنني أبداً فهم مدينة ورد تُخفي داخل أريجها آثار معتقل رهيب
عدد كبير أيضاً من المحتفلين بعيد الأم يكتبون في "فيسبوك" تهنئة للأمهات، بينما ينسون تهنئة الأم التي تكنس باحة البيت قرب أقدامهم. يعتبرون أنّ التهنئة بعيد الأم شبيهة بتقاسم خبر عاجل على "فيسبوك" عن زلزال، أو عن فوز فريق كرة قدم، ولا علاقة له بالأمهات.
حين جاء عيد الأب، بدا لي واضحاً أنه ليس عيداً إلكترونيا فحسب، بل عيداً كرتونياً، خصوصاً أن تهنئ فيه رجلاً. أحبّ أبي كثيراً، وأريد معايدته كذلك، سوى أنه كان غائصاً ذلك اليوم في شؤونه الخاصة حتى العنق: اشترى مذياعاً، فأنبّته أمي. وبعد القيلولة، كانت تُعدّ له عصيراً، كان صوت الخلاط قوياً، وكان هو منشغلاً بالبحث عبر "أنتين" مذياعه الجديد عن إذاعة لندن، مُحدثاً تلك "النشنشة" الرهيبة، وكان التلفاز أيضاً مشتعلاً.
كان مستحيلا (إزاء ذلك) التفكير في أيّ نوع من المعايدات.