يا صاحبي... الرواية إمبريالية بطبيعتها
وتسأل لماذا هي إمبريالية؟ لأنها، يا صاحبي، وببساطة شديدة، تستعمر وتضمُ بلا وازع الأراضي المحيطة وتتوّسع على حساب أرض جديدة تستكشفها بين الحين والحين، فهي تستعيد استخدام ثيمات وطرائق الكوميديا، والقصة، والهجاء، والقصيدة الغنائية، والقصيدة التعليمية، والتفكير الفلسفي، والأسطورة، والموروث الهائل من حكايات الشعوب على هذه الأرض وما بين الكواكب والنجوم، ولا شيء يمنعها أيضاً من أن تستخدم الوصف والسرد والدراما والمقالة والتعليق والمناجاة والخطاب، وذلك من أجل مآربها الخاصة، ولا شيء يمنعها من أن تكون، بمشيئتها الخاصة، وبصورة متتابعة أو متزامنة، خرافة أو قصة أو دفاعاً عن الحرية أو قصة حبّ ساذجة أو تاريخاً أو حكاية أو ملحمة، لا شيء يكبح جماح الرواية في الواقع، لأنها إمبريالية، إذ تُلغي ببساطة الفئات الأدبية القديمة، وتتقدّم الصفوف بوصفها "حديثة نعمة" من بين الأجناس الأدبية الأخرى، فإنها بذلك تستولي على قطاعات متعاظمة من التجربة الإنسانية، والتي غالباً ما تتباهى بأنها تملك معرفة معمَّقة بها، والتي تُعيد إنتاجها تارة بالاستيلاء عليها مباشرة، وتارة أخرى بتأويلها على طريقة عالِم الأخلاق، والمؤرّخ واللاهوتي، وحتى على طريقة الفيلسوف والعالِم.
الرواية، يا صاحبي، أبدت الكثير من جنون العظمة إلى درجة أنّ الكاتب الفرنسي العظيم، أونوريه دي بلزاك، (ولد في 20 مايو/أيار 1799 وتوفى في 18 أغسطس/آب 1850) أخذ يباهى بأنه نافس سجلات الأحوال المدنية، وبأنه تجاوز المؤرخين. وكذلك، ألم يؤكد إميل فرانسوا زولا، وهو كاتب وروائي فرنسي مؤثر، بقوله في كتابه "الرواية التجريبية": "نحن، الروائيين الآخرين، قضاةُ تحقيق البشر أهواءهم"؟ وتعلّق الكاتبة الفرنسية، مارت روبير (المولودة في باريس عام 1945 والمتوفاة فيها عام 1996)، قائلة: "لم يكن بوسع راوي القصة أن يحلم بصعود غير عادي أكثر من هذا، فبينما لم يكن يحلم في الماضي إلا بالتسلية مستغلاً التواطؤ المعروف جيداً للسرور والكذب، فإنه بات يُراكم من الآن فصاعداً المهام الشاقة للعالِم والكاهن والطبيب وعالم النفس وعلم الاجتماع والقاضي والمؤرّخ".
الرواية لا تحوي شطحاتها فحسب، بل تحوي شطحات الأجناس الأخرى وتتبناها
إذا كان الروائيون جميعاً بعيدين عن الاشتراك في هذا الادعاء، فإنه لا يقصّر في دمغ نزعة واحدة على الأقل، مؤكداً بصورة متزايدة باطراد في الرواية الحديثة: التعبير عن كلية الواقع، والإعلان عن حقيقته النهائية، على الملأ. إذن نحن نفهم لماذا هاجمت المراجع الدينية والأخلاقية والسياسية أو حتى الجمالية (المدارس الأدبية كما الأكاديميات) الرواية بشراسة. المحاكم كلّها تسعى للاقتصاص منها ومحاكمتها لأنها تسعى إلى الحلول محلّها جميعاً لمصلحتها. وهكذا، فإن المعارك التي شُنّت من خارج الرواية هي في الواقع المعارك التي جذبتها إليها طبيعتها غير المحدَّدة وطموحها غير المنضبط. ويُضاف إلى ذلك كلّه: أنّ الصعوبات التي تلاقي المرء في تعريفها، وفي تصنيفها، وفي تحليل تاريخها وفي فهم مغامراتها، هي صعوبات لصيقة بها، وخاصة بها وتعشّش فيها، وتنتمي إليها. والرواية لا تحوي شطحاتها فحسب، بل تحوي شطحات الأجناس الأخرى وتتبناها. فالرواية تدمج الأجناس الأخرى، وجميع طرق القول والفعل، بل والانتقادات التي تُوجَّه إليها، وحتى النظريات التي تُحرّض عليها، إنها قوة هائلة غير عادية، باختصار: يصعب أن تُعد الرواية جنساً أدبياً بين الأجناس الأخرى، وذلك من فرط ما تضمّه في إمبراطوريتها من الآداب، بل هي تتطلع اليوم إلى أن تُعرّف نفسها بأكثر من الأدب نفسه.
نعم، هذه هي إمبريالية الرواية، وأنا لا أعرف تعريفاً للإمبريالية أوضح وأبسط وأعمق من هذا التعريف الذي جاء في مقدمة كتاب "مدخل إلى النظريات الكبرى في الرواية" من تأليف الفرنسي، بيير شارتييه، طبعة عام 2005 والصادرة ترجمتها العربية عن منشورات الهيئة العامة السورية للكتاب (وزارة الثقافة السورية، ترجمة عدنان محمد في ثلاثمئة صفحة، وطُبع في دمشق عام 2023). وأنا على كل حال لن أخوض في غمار الكتاب لأنّ حقله واسع فسيح، ويصعب الإحاطة به في مقال أو دراسة، ولكن لا بد مما ليس منه بد، لذلك "اقتبست" (المقصود ما ورد أعلاه) هذه الفقرة الطويلة من الكتاب مع تصرف وتحرير لأنّ الترجمة كانت عسيرة في بعض المواضع. وأود الإشارة إلى أنّ كلمة مقابسة هنا تحتاج إلى تفسير، فالكلمة مشتقة من فعل قَبَس. وقبس منه ناراً أي أعطاه منها. ومعنى المقابسة أن يشترك اثنان أو أكثر في محاورة علمية فيقبس أحدهما العلم والمعرفة من الآخر ويعطيه ما عنده. وهذا معنى الكلمة في اللغة العربية.
والسؤال الذي خطر في بالي بعد أن أنهيت قراءة الكتاب: كم رواية ينبغي للمرء أن يقرأ في حياته ليكتب كتاباً عن الرواية؟ بلا شك مؤلف الكتاب الفرنسي بيير شارتييه قرأ العشرات أو قُل المئات أو هل نقول زادت عن الألف رواية، وهنا يا صاحبي أعود إلى خبر قرأته قبل سنوات في صحيفة عربية مفاده: إنّ المواطن الكندي الذي يعتبر الكتاب خير جليس في الزمان، ينتابه الكثير من الحزن والقلق حين يشرف على الموت ولم يتم بعد قراءة ألف رواية، مش ألف كتاب، ألف رواية!
الغرق في رواية عظيمة يمثل إحدى المتع النادرة والدائمة والموثوقة في الحياة
وهُنا أسأل: هل فعلاّ قراءة الروايات تطيل من عمر الإنسان وتخفّف من تعبه وتعزّز ذكاءه وتمدّه بمشاعر أغزر وأقوى في حياته على هذه الكرة الأرضية؟ وهل لدى الروايات على اختلاف أنواعها، قدرة دائمة على نقل الإنسان إلى عالم مختلف بعيداً عن هموم الحياة اليومية؟
مهما تعدّدت الأقوال عن قراءة الروايات يبقى شيء واحد مؤكد: الغرق في رواية عظيمة يمثل إحدى المتع النادرة والدائمة والموثوقة في الحياة. فالرضا عن الحالة المادية للفرد وموقعه الاقتصادي في المجتمع يأتي ويذهب، لأن المتسوّل على أرصفة شوارع المدن المكتظة بالمتخمين يعيش على جملة: من مال الله. والأصدقاء في العموم يثيرون الحنق والغضب في بعض الأحيان وينفضون، والأحباب يتفرقون في الزمن الأغبر، على أنّ المرء بوسعه دائماً العودة لقدرة الأدب الأبدية التي يمكن أن تأخذه إلى عالم آخر. هل الروايات مثل الأصدقاء: "من أين أُمسكهم؟ من فرطِ ما اتسعت أسماؤهم/ حفظوا الأسماءَ ثم نسوا. يمشون للوترِ المشدودِ فيّ/ كما تمشي لمكةَ في الموّالِ أندلسُ"؟ لله درك أيها الشاعر السوداني محمد عبد الباري.
تبقى الروايات قادرة على الإتيان بما هو فريد ومختلف وجديد. فهي تخاطب القلب والعقل والوجدان على نحو تلقائي، وتُطلعنا على تاريخ عالمنا، واحتمالات مستقبلنا، ونسيج أرواحنا. وتمضي الأيام مع الروايات، وستمضي أبداً، بصيفها اللافح، وخريفها الحالم، وشتائها القاسي، وربيعها الفواح، وسيظل أبطال الروايات وكتابها في عزيمة مثابرة وهمّة متصاعدة، قلباً معذباً وأشواقاً طاحنة.