يا رب يا رب.. لا يا عرب

13 نوفمبر 2023
+ الخط -

حرب إبادة جماعية تشنّها إسرائيل في قطاع غزة اليوم، حرب لا يمكن توصيفها بغير هذا اللفظ، ويكفي للبرهان عليها ألسنة اللهب التي تقذفها الطائرات الإسرائيلية ليل نهار على القطاع، ويشاهدها الملايين على الشاشات وسط صمتٍ مطبق من حكّام العالم العربي والإسلامي، وكأنّهم يتابعون حرباً في عالمٍ آخر لا تُشن على بني جلدتهم وأبناء عمومتهم. بل، ويبدو الموقف الرسمي العربي أضعف من أي مرّة سابقة، ويبدو أنّ الشعوب العربية سئمت من شجب وإدانة حكامها، أليست هذه دوامة يدور فيها المصير العربي منذ عقود وعقود؟ حكام يشجبون الأحداث والانتهاكات بحق الشعوب العربية، ومواطنون يشجبون أداء حكامهم، ولا شيء يتغيّر، هكذا كان الوضع في العراق، وفي سورية، وفي فلسطين، وفي كلّ مكان انتُهكت فيه حُرمة الدم العربي.

 بيانات المؤسسات الدولية والأرقام الحكومية التي تشير إلى قتل إسرائيل لأكثر من أحد عشر ألف فلسطيني، نصفهم من الأطفال، والضحايا في عدد متزايد يومياً، في إشارات واضحة لارتكاب إسرائيل لجرائم حرب. ولكن اللبيب الذي كان يفهم الإشارة في أوكرانيا، اختار أنّ يكون أصم وأعمى في قطاع غزة، فنحن أمام مجتمع دولي وعالم غربي أميركي بات بين ليلة وضحاها لا يكترث بكلّ الأرقام الصادرة من القطاع، ليس فقط عن عدد الشهداء الصادم، ولكن، أيضا عن حرب التجويع والحصار التي فُرضت على مليوني ونصف المليون إنسان. فهل يعقل للبشرية أن تتفرج على هذا العدد من السكان وهم يُقتلون ويُذبحون دون السماح حتى بدخول المياه والدواء؟ ألا يعطي هذا مؤشراً بأنّ الجيل الحالي من البشرية، هو أكثر جيل متنصل من مبادئه الإنسانية، من آدميته، وكونه في الأصل والأساس إنساناً!

أعني دعونا نتخيّل المذابح الكبرى في التاريخ، مثلاً مذابح المغول، أو هولودومور، أو ناكينج، أو حتى مذابح القرن السادس عشر في أوروبا، ألم يكن ليخجل القاتل وداعموه لو كانوا في عصر مثل الذي نعيشه، من استمرار القتل على الهواء المباشر أربعا وعشرين ساعة؟

المصيبة تكمن في أنّ الولايات المتحدة الأميركية تضع نفسها فاعلاً أساسياً في هذه الحرب بالدعم والتوجيه والمشاركة في إدارة الحرب على غزة، وهي أكبر قوة عالمية، وتدعي امتلاك سلطة أخلاقية، وظلّت في السنتين الماضيتين تدير نقاشات وندوات وحملات وتصريحات تشجب الانتهاكات اللاأخلاقية لروسيا، وتحشد لذلك كلّ قادة الرأي والكتّاب والمفكرين في بلادها، وفي المجتمعات الغربية. ولذا لا يمكننا القول إنّ أميركا سقطت في اختبار الأخلاقية في غزة، لأنّها أساساً لم تخضه، ويبدو أنّ إدارة الرئيس الأميركي، جو بايدن، لم تخض أصلاً نقاشات مثل: ماذا عن حقوق الإنسان الذي يعيش الحرب في قطاع غزة اليوم؟ ماذا عن الممرات الآمنة؟ المستشفيات، المدارس، القصف الهمجي المتواصل، الأطفال وصورهم المروعة، وقد حُرقوا حرقاً بفعل آلة الدمار الإسرائيلية؟ كلّ هذا النقاش أُلغي، ولم يُخض أساساً، في سبيل دعم الاحتلال الإسرائيلي حتى سحق الإنسان الفلسطيني في غزة.

اللبيب الذي كان يفهم الإشارة في أوكرانيا، اختار أنّ يكون أصم وأعمى في قطاع غزة

وعلى الرغم من تغيّر خطاب بعض قادة العالم الغربي، بعد جرائم إسرائيل القبيحة منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأوّل، وآخرها تصريحات الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، الذي طالب علانيةً بوقف استهداف الأبرياء في غزة من الأطفال والنساء، إلا أنّ ذلك لا يغيّر في المعادلة شيئاً، إذ يبدو أنّ قادة الاحتلال، وعلى رأسهم بنيامين نتنياهو، لا يؤمنون أساساً بمجتمع دولي، أو قوانين إنسانية ناظمة، وهذا التغيّر في خطاب بعض قادة الغرب، والذي سيتبعه تصريحات متلاحقة تضغط على إسرائيل لوقف حمم النار التي تصبها على غزة، لن يغيّر من الموقف الأميركي قريباً. ولكن أليس من الغريب أن تسمع مطالبات واضحة بألسن غربية، سواءً من قادة أو منظمات دولية وإنسانية، ولا نسمع اللسان العربي، يصدح بمطالبات شديدة اللهجة؟

يبدو أنّ العرب باهتين هذه المرّة حتى في تصريحاتهم، ويبدو أنّ قادة العالم العربي باتوا يعرفون بأنّ شعوبهم سئمت حتى الكذب، فيبدون مثل ممثل فاشل سئم اللعب في أدوار مكرّرة، فلا يسعى للتمثيل هذه المرّة أساساً، بل ولا يتساءلون أصلاً: لماذا يُقتل الفلسطينيون؟

حسناً.. ربّما يُقتل الفلسطينيون ويهجرون هذه المرّة أمام أعين أكثر من أربعمئة مليون عربي وثمانية مليارات آدمي، فقط لأنّهم اختاروا أن يرفعوا رؤوسهم، ويواجهوا مشروع إسرائيل المستمر منذ خمسة وسبعين عاماً، والقائم على قتل أصحاب الأرض بعد سلبها منهم، وممارسة كلّ أنواع الجرائم والفصل العنصري بحقهم، وحتى المطالبة بطردهم وجعلهم مستوطنين في دول جيرانهم... علما أنّ الحق في الحياة يعطي الفلسطيني الحق في النضال الوطني ضد المستعمر، وهو ما لا تريده إسرائيل، ولا تقبله الولايات المتحدة الأميركية، وتجري جولاتها لحشد الدعم لمستقبل يُراد أن تقرّره آلة الحرب الإسرائيلية. 

أليس من الغريب أن نسمع مطالبات واضحة بألسن غربية، سواءً من قادة أو منظمات دولية وإنسانية، ولا نسمع اللسان العربي، يصدح بمطالبات شديدة اللهجة؟

أمّا المدنيون في قطاع غزة، فيجدون أنفسهم في حلقة جديدة من مسلسل التخاذل العربي، ويجدون أنفسهم مجدّداً مضطرين لحذف العين من نداء "يا عرب"، والاكتفاء بالنداء المتواصل، يا رب، يا رب.. وذلك لأنّ العرب اختاروا بأن لا عين ترى ما يحدث في القطاع، ولا أذن تسمع النداءات والصيحات التي تنقلها الشاشات، وبأن لا مكان في الوعي والعقل العربي لمشاهد جديدة تضع حكومات وشعوب العالم العربي أمام مسؤوليات تاريخية جديدة، أو قرارات يجب أن تُتخذ وتظلّ في إطار"يجب" فقط، وكلّ قممهم واجتماعاتهم ومباحثاتهم تدور في هذا الفلك. وهنا، أتساءل إن كان قادة العرب هذه المرّة يتساءلون فيما بينهم، أو يرسمون فيما بينهم خططاً محكمة للتنصّل من مسؤولياتهم الدينية والوطنية والقومية والأخلاقية، أم أنّهم يتهربون منها تلقائياً بحكم العادة، وبحكم الضرورة التي تفرضها الضغوط الممارسة، والتي باتت أيضاً عادة يتأقلم العرب معها، ولا يستنكرونها حتى في قرارة أنفسهم.

ولأنّ المطالبات تكون على شاكلة "يجب وقف القصف عن مدنيين محاصرين"، فإنّ عبارات من نوع "غير ممكن" و"لا نستطيع"، تبدو أكثر بشاعة عندما تتعلّق بعدم الإمكانية والقدرة على فتح المعابر وإدخال المساعدات، وهو ما يجعل أهالي القطاع لا يفهمون لماذا لا تتم معاملتهم على أساس أنّهم مثلا، ضحايا زلزال أو كارثة طبيعية، فتهبّ قوافل الإغاثة العربية والتضامنية الدولية، لنجدتهم.

ربما يكمن الجواب بأنّها حرب على الأرض، ولذلك فإنّ إسرائيل تمنع ذلك، وتفرضه على دول إقليمية ذات سيادة ودور فاعل، تبقى عاجزة حتى عن جهود الإغاثة الضرورية للنجاة. كما نجد دولاً يُفترض أن تلعب أدواراً ضخمة، تكتفي بلعب دور الكومبارس، ناهيك عن التخاذل والتآمر من دول أخرى، تتمنى تصفية القضية الفلسطينية في قطاع غزة، مثل ما تتمناه إسرائيل، أو أكثر ربّما.

إذاً، يُترك أهالي قطاع غزة أمام مصيرهم، يواجهونه وحدهم، ووحدهم فقط، وهو ما لا يجب أن  يستمر، نجده على الأقل لإنسانية غائبة عن الضمير الوجداني للبشرية، يُؤمل ألا يطول غيابها، ولأمّة عربية لم يخفت يوماً شعورها بوحدة المصير والتضامن الجارف والرغبة في تغيير الواقع واللا بديهيات التي قبلت بها أنظمة وحكومات العالم العربي، مثل أن تتفرج على أخيك، وأهلك، في قطاع غزة وهم يذبحون أمامك، وتظلّ تتفرّج وتتفرّج..

مؤمن أبو صلاح
مؤمن أبو صلاح
منتج في قسم المراسلين في التلفزيون العربي.