وقفة صادقة مع الصادق

17 نوفمبر 2024
+ الخط -

"فكلّ خطوة في الاتجاه الخطأ، ندفع ثمنها مرتين".

في الخامس عشر من نوفمبر/تشرين الثاني الجاري، أتمّ الكاتب الليبي الصادق النيهوم (1937 – 1994) ثلاثين سنةً على رحيله. أضحت ذكرى وفاته في العقد الأخير، مناسبةً احتفائيةً تقتصر على دائرة من المثقفين، والمهتمين بالشؤون العامة، لكن ورغم حضوره الطاغي ضمن هذه الدائرة، يكاد الرجل يكون غير معروف على المستوى المجتمعي، وإن أُعيد اكتشافه في السنوات القليلة الماضية، بفضل بروز جيل لديه ما يكفي من الاطلاع على مسيرة الراحل.

لماذا الصادق النيهوم؟

عند النظر إلى ما قدّمته ليبيا إلى المكتبة العربية من فاعلين ثقافيين على كافة المستويات، يلاحَظ فقرٌ شديد على المستويين الكمّي والنوعي. ليس هذا مقام البحث في أسباب ذلك، لكن قلة الأسماء ذات الوزن الثقيل على الساحة الليبية، جعلت الصادق النيهوم -مع بضعة أسماء معدودة- رمزًا ثقافيًا مهمًا، يُستعاد في كل نقاش ثقافي أو سياسي، أو أدبي.

هذا بالطبع، لا ينفي قيمة الصادق النيهوم، ولا يقلل حجم تأثيره من الناحية الفكرية أو الفنية. والجدل المثار فيه وعنه، حيًا وميتًا، إن لجهة أفكاره، أو مسيرته العلمية، أو حتى عن علاقاته مع السلطة الليبية، هو الذي طالما قدّم نفسه بوصفه متمردًا، منحازًا للإنسان دون سواه.

ينتمي النيهوم إلى ما تمكن تسميته الجيل المؤسِّس، الجيل الذي واكب استقلال البلاد بعد عقود مريرة من احتلال الفاشية الإيطالية، والإدارة الإنكليزية-الفرنسية، ونهوض الدعوات القومية في المنطقة. ومع انتشار التعليم، وإرسال البعثات ونشاط الحركة الثقافية، بدأ هذا الجيل يتحسس طريقه، باحثًا عن شخصيته المستقلة فرديًا ووطنيًا، دون أن يقطع مع مؤثرات وجدانية لم تهيمن على المنطقة العربية فحسب؛ وإنما ساهمت جوهريًا في تشكيل وعيه، ورسم خرائط انتماءاته.

إرث النيهوم

يكتنف الإحاطة بسيرة النيهوم العامة والخاصة شيءٌ من الصعوبة، وربما شيءٌ من الغموض كذلك، وذلك لحداثة العمل التوثيقي البيبلوغرافي في تقاليد الكتابة الليبية. لكن بعيدًا عن التكهّنات والخوض في الشخصي، يبقى نتاج النيهوم بغزارته وتنوّعه ما بين مقالات وكتب ودراسات، مثار إعجاب.

باستثناء عمله في الإشراف على الموسوعات العلمية والتاريخية في سني حياته الأخيرة (بهجة المعرفة، أطلس الرحلات، تاريخنا)؛ فإن أبرز ما اشتُهر به الصادق النيهوم منذ وقت مبكّر، كان نقده الاجتماعي والسياسي، الذي لمع نجمه فيه مع مقالاته بجريدة (الحقيقة) في الستينيات. بالإضافة لروايات لم تلقَ نجاحًا مميزًا مقارنةً ببقية أعماله، مثل: (القرود)، (من مكة إلى هنا)، (الحيوانات).

وُفّق النيهوم كل التوفيق، في مجال النقد المجتمعي (فرسان بلا معركة – تحية طيبة وبعد) وكان ذا بصيرة ثاقبة، في ربط السلوكيات المجتمعية بأصولها التقليدية، وربطها كذلك بالمتغيرات الحضارية والعلمية في العالم المعاصر. مع ملاحظة أن نقده الاجتماعي استمر بنفس القسوة، حتى بعد تغيّر النظام السياسي في ليبيا 1969، بالموازاة مع سكوته عن أداء السلطة الجديدة، حتى في أيامها الأولى قبل أن تتمكن من الهيمنة على الوسط الثقافي، ما يثير ريبةً جدّيةً حول علاقاته السياسية، ومدى إخلاصه لأفكاره، التي بثّها في كتبه ومقالاته وأحاديثه.

نأخذ كتاب (محنة ثقافة مزوّرة) مثالًا لكتاباته السياسية. وليس المقصود بـ"السياسي" هنا، مناقشة قضايا محددة تخص بلدًا ما، وإنما السياسة بمعناها الفكري الواسع، حيث باستطاعة المثقف أن "يتفلسف" حول البدايات والمآلات، وإعادة تشكيل المفاهيم، وصياغة التعريفات، ويأمنَ بعد ذلك كله شرّ السلطة، التي لا تكترث كثيرًا بالرطانة الثقافية الباردة، مقارنةً برفع الصوت في قضايا بسيطة ومباشرة.

لنعترف أن للنيهوم إرثاً يجعله حاضراً بعد ثلاثة عقود من غيابه. إنه استثناءٌ كبير في الثقافة الليبية، التي هي أيضاً استثناءٌ في الثقافة العربية

في هذا العمل، يفتح النيهوم صدره لنقد النظام السياسي العالمي برمته، ليدعو العرب والمسلمين لتبني خيار ثالث سمّاه "الشرع الجماعي"، يقع بين الرأسمالية والشيوعية (الأمر الذي يُذكّر بالنظرية العالمية الثالثة). على أن هذا الخيار جاء تأملًا أقرب منه فكرًا. جمع النيهوم فيه بين بساطة التفكير السياسي/الاقتصادي/السوسيولوجي، إلى جانب التوظيف الأهوائي الذاتي لمقاصد الدين، الذي طوّعه كيف شاء، مع اعتداد كبير بالنفس، وتسفيهٍ لكل الأفكار، قديمها وجديدها، دون أن يكلّف نفسه أن يعرضها بهدوء أولًا. والمفارقة التي تفرض نفسها هنا، أن "الثقافة المزورة" أو الوعي المزيّف، أو حتى الضدّية الفكرية إذا شئنا؛ تكمن هنا في مضمون هذا الكتاب بالذات. وقد أعاد النيهوم طرح هذه الأفكار، بحرفيتها تقريبًا، في بعض كتبه الأخرى: (الإسلام في الأسر)، (إسلام ضد الإسلام)، وغيرهما. والتي تقوم على افتراض أننا نحن العرب والمسلمين، لم نشارك في صياغة هذا العالم الحديث، وبالتالي فنحن لا ننتمي إليه، ولسنا مناسبين له، لينتهي بعد هاتين المقدمتين، إلى نتيجة تقول إننا يجب أن نخترع نظامنا الخاص بنا، ليحضر المسجد بدل البرلمان، والشورى بدل الديمقراطية، والجهاد بدل الجيش الحديث، إلى غير ذلك من "البدائل".

على أن النيهوم -ورغم فانتازيته الفاقعة- لم يكن بِدعًا في هذا النمط من الكتابة. فكثيرة هي الكتابات التي صدرت بعد هزيمة 67 المذلة، والتي على أثرها أصبح الإسلام، وتراث المسلمين، حاضريْن كمحورين ثابتين في كل أطروحة سياسية واقتصادية واجتماعية وعلمية. في محاولة نكوصية، تستهدف التقدم إلى المستقبل، عن طريق الرجوع إلى الماضي، بالبحث فيه، وإعادة تكييف إشكالياته، لجعلها تتطابق مع قضايا الحاضر.

والحق أن أسئلة الحاضر، ليس لها جواب في الماضي، فلا مجال للمقارنة بين منجزات الحداثة (سواء أتم فرضُها بالإكراه، أو تم تبيئتها في بِنية المجتمع) وبين ما كان سائدًا قبل 1000 سنة، أو حتى 500 سنة. ويطول الحديث في ذلك.

ولكن هذا ما لم يدركه النيهوم، وجملة المفكرين الشعبويين، الذين خلطوا بين القومية والمحافظة الدينية، مع مسحة من الانفتاح المجتمعي، واطلاع سطحي على منجزات الثقافة الحديثة، دون اهتمام بأصولها وفلسفاتها، مع اكتفاء بجملة معارف عامة، مشوبة بكثير من الأيديولوجيا، التي هي بالتعريف: وعي مقلوب.

ما تبقى من النيهوم

ولكن لنعترف أن للنيهوم إرثًا يجعله حاضرًا بعد ثلاثة عقود من غيابه. إنه استثناءٌ كبير في الثقافة الليبية، التي هي أيضًا استثناءٌ في الثقافة العربية، بفقرها عن إغناء المكتبة العربية، بأسماء تتجاوز أصابع اليدين. ولنعترف له أيضًا، بسمتين، قد تفرّد بهما عن غيره. الأولى: أنه رجل ذكي، واسع الاطلاع، مفطور على المشاغبة. توجّه بنقدٍ لاذع إلى الثقافة المجتمعية، وامتداداتها التراثية كما يراها، دون أن يصطدم مع أسبابها العمليّة الواضحة، المتمثلة في المنظومة السياسية المعطوبة. (هذا إن لم يكن موافقًا للسلطة في تنظيراتها). والثانية: أنه لم يصدُر في كتاباته عن منهجية منضبطة، وتصوّر فكري متماسك، يضفي نوعًا من الرصانة على أطروحاته. فإذا أضفنا تمتعه بأسلوب لغوي ساحر، وحسّ أدبي مفعم بالتهكم اللوذعي اللاذع؛ أدركنا كيف تحوّل النيهوم إلى لاعب سيرك رشيق، يقفز بين الأسئلة، أو بائعٍ ماهر، يُسوّق بضاعته العجيبة بلباقة وظُرف، ويتجنب مع ذلك الوقوع في كثير من الأفخاخ والمطبّات الثقيلة، والمُساءلات الجادة، ليخرج سالمًا من كل ذاك دونما إصابة، وسط تهليل وتصفيق الكثير من القرّاء/المشاهدين، لهذا المغامر الجريء.