ورطات قصصية

11 مايو 2024
+ الخط -

تقدمت السيدة بوغطوا من الصالون في اتجاه المطبخ وقد بلغت الخامسة والستين وقد كانت مؤخرتها كبيرة جداً إلى درجة أنك لن تستطيع التركيز في الصالون ولا في المطبخ ولا في الخضار والأواني واللحم المفروم والبهارات الكثيرة، بل ستظل مؤخرتها الستينية الضخمة مستحوذة على كل تركيزك. وهذا حقيقي.

إلى درجة أن بإمكاننا القول: تقدمت مؤخرة السيدة بوغطوا في اتجاه المطبخ عوض أن نقول: تقدمت السيدة بوغطوا. 

مؤخرة كبيرة جداً بعد الستين بينما الساقان نحيفتان ومتغضنتان ومقوستان، والكتف تحولت إلى علاقة ملابس ليس إلا، كأن كل ما كان في الساقين والفخذين من لحم صعد إلى فوق، بينما نزل إلى أسفل كل ما كان يغطي الكتف والظهر. 

إنّها ورطة كبيرة عند السيدة بوغطوا، كما الأمر كذلك عند من يريد كتابة قصة عن السيدة بوغطوا. ورطة من اللحم المترهل والوهن والدهون الفاسدة. مؤخّرة كبيرة إلا أنّها لم تعد مثيرة. مؤخّرة جدة حقيقية لا تصلح إلا لترسم في لوحات يتضمّنها كتاب أطفال مصور حيث الجدة ساحرة غير شريرة، أما هي فكل ذلك ليس سوى ورطة. بحيث يمكننا أن نبدأ القصة من جديد هكذا: تقدمت ورطة السيدة بوغطوا من الصالون إلى المطبخ. أو أن نبدأها مباشرة هكذا بتنقيح صارم لبداية القصة: تقدمت الورطة من الصالون في اتجاه المطبخ. 

حسناً، هناك أشياء كثيرة أهم من مؤخرة السيدة بوغطوا كان بالإمكان كتابتها في هذه القصة، فالصالون مرتب بعناية، والخضار طازجة في المطبخ ولامعة بألوانها المبهجة التي تذكر بالحقول والسواقي والهضاب والتلال، ورائحة اللحم المفروم لذيذة بعد تتبيله جيداً بكل تلك البهارات ذات الأسماء الغريبة والروائح العجيبة، كما أن السيدة بوغطوا مغنية تملك صوتاً رائعاً للغاية، وهذا أيضاً حقيقي.

يمكننا بدء القصة بطريقة مختلفة إذن، أن نكتب مباشرة مثلاً: كانت السيدة بوغطوا جالسة في الصالون على الفوتوي الجانبي الذي يسع شخصاً واحداً. شعرها الرمادي الجميل حليق في قصة غلامية حديثة تزينه وردة صفراء كبيرة مصنوعة من بقايا الدانتيل، نظارتها تنزل حتى نهاية أنفها وهي تتصفح ألبوم صور العائلة الذي تصفحته آلاف المرات طيلة السنوات الأخيرة. 

ثم: سنسرد قصة كل فرد من أفراد العائلة، ابتداء بزوجها الضابط العسكري المتقاعد الذي توفي قبل سنتين وأربعة أشهر إلى أبنائها وأزواجهم وزوجاتهم إلى حفيدتها الوحيدة كلارا ذات الوجه الدائري الصغير المليء بالنمش من دون أن ننسى أبويها اللذين يظهران أيضاً في صور قليلة عتيقة.

سنخصص مثلا صفحتين لكل فرد من أفراد العائلة، بينما السيدة بوغطوا جالسة فقط تقلب صفحات الألبوم على إضاءة الأباجورة الضعيفة بعد الغروب مباشرة.

وحتى إن استغرق الأمر صفحات طويلة تخلد ذكرى هذه العائلة السعيدة في الصور فستظل السيدة بوغطوا جالسة فقط، لا يظهر داخل السطور سوى وجهها الذي أصبح مع الوقت والسنوات والزمن شبيهاً بوجه أي رجل، وشعرها الرمادي الخفيف، وأنفها وهو يسند النظارة ذات الإطار السميك، وفستانها الكلاسيكي جداً من قطعة واحدة المنقط كفساتين الخادمات، وتنهداتها. بينما لا تبدو لنا حتى ساقاها اللتان تحجبهما، بحبكة قصصية دقيقة. 

لن نوقف السيدة بوغطوا أبدا حتى لا نضطر إلى وصف مؤخرتها الكبيرة التي من دون شك ستغير مجرى السرد ومجرى الأحداث بحيث تتحول القصة من وصف عائلة بلجيكية تقليدية سعيدة والتركيز على صوت السيدة بوغطوا المطرب الذي أدهش دائماً كل أقاربها وحتى بعض الغرباء والتركيز على ورود الحديقة التي تفتحت منذ أسبوع وهي بالمناسبة خمس وردات وعلى الإضاءة الضئيلة داخل الصالون التي تظل مشتعلة حتى في النهار ورائحة الكفتة المقلية التي ستستشري بين الكلمات وداخل الصفحات ثم وصف هدوء السيدة بوغطوا ورزانتها وطمأنينتها وهي تعيش وحيدة داخل بيتها الجميل وتجلس بعد الطبخ والكنس والإجابة على الرسائل وتفقد رسائل الضرائب، تجلس على الفوتوي الجانبي لتقلب صفحات ألبوم العائلة مبتسمة بحب إلى درجة أن دمعة سخينة تنزل من عينها لتسيل فوق خدها المجعد في غفلة منها.. بحيث تتحول القصة، قلنا، من وصف عائلة إلى وصف مؤخرة.

طبعاً يمكننا ترك السيدة بوغطوا جالسة منذ بداية القصة. جالسة فقط. جالسة فقط. كأي سيدة عجوز محترمة ووقورة، من دون إقحامها في أي ورطة. خصوصاً ورطة من ذلك النوع الذي تسببه أجسادنا، التي كلها في حقيقة الأمر ليست سوى ورطات عظمى، وكلما تقدمت في السن تتأكد من ذلك أكثر، سواء سحبت وراءك مؤخرة هائلة أم مؤخرة هزيلة جداً. 

ورطات لا يستطيع إخفاءها حتى الغناء بصوت ريفي أوبيرالي شجي  كصوت السيدة بوغطوا.

دلالات
محمد بنميلود
محمد بنميلود
كاتب مغربي من مواليد الرباط المغرب 1977، مقيم حاليا في بلجيكا. يكتب الشعر والقصة والرواية والسيناريو. صدرت له رواية بعنوان، الحي الخطير، سنة 2017 عن دار الساقي اللبنانية في بيروت.