هيلاري مانتل وحياتها المدهشة (3/3)

18 مارس 2021
+ الخط -

مع فرحتها الغامرة بكل ما حققته من نجاح مادي وأدبي بعد سنوات طويلة من المحنة والكحرتة، تحرص هيلاري مانتل على أن تقول في نصها لزملائها الكتاب من كافة الأجيال محذرة وناصحة حتى وإن كانت النصيحة غير مجدية لهواة مطاردة السراب: "على الكاتب أن ينجو بنفسه من كل ذلك الهوس الذي تثيره الجوائز وقوائم المبيعات، عليه أن يدرك أن الجوائز ليست بالضرورة مقياساً لتميز عمله الأدبي، فالفائزون هم نتيجة لتسويات ومفاوضات، وأحياناً لاعتبارات سياسية، مع أن أعضاء لجان التحكيم يحبون دائماً التظاهر باستقلالهم الكامل، يحدث أحياناً أن يكون كتاب على وشك الفوز بإحدى الجوائز الهامة الكبيرة، ثم يتم استثناؤه لأسباب غير فنية، ولكن لاعتبارات أخرى، أحياناً يكون المحكمون ممثلين أو سياسيين بداخلهم أحلام أن يكتبوا الأدب يوماً ما حين يتوفر لهم الوقت، في أول مرة كنت فيها عضوة في لجنة تحكيم، شاهدت بنفسي صراعات الأنا التي يقوم بها المشاهير، لقد كانت تجربة مأساوية لدرجة أنني قلت لنفسي: لن أكررها ثانية".

تضيف هيلاري مانتل قائلة: "ولكني تعلمت من تلك التجربة أن بعض الآراء مهمة والأخرى لا تهم، ولذلك كررت التجربة، مع أنه في بعض الأحيان يكون الضغط على المحكمين كبيرا ولا يُحتمل، عندما كنت عضوة في لجنة تحكيم البوكر عام 1990، قرأنا حوالي 105 كتاب، ومع أني كنت محظوظة بالعمل تحت رئاسة رجل مثل دنيس فورمان، لكن جلسة التحكيم الأخيرة كانت إحدى محن حياتي الكبرى، كنت مغتاظة بسبب تسريب المعلومات الخاطئة عن عمل اللجنة للصحفيين، والتي أعتقد أنها وصلت للصحافة عن طريق الإدارة وليس المحكمين، ألمح بعضهم وهو يبتسم إلى أن ما حدث هو مجرد أذى طفيف، لكني أخذت الأمر بشكل أكثر جدية، وكأنها محاكمة كبرى، سنشنق فيها خمسة كتاب، ونترك كاتبا واحدا يهرب، ولكننا في الوقت نفسه سنهب الحياة أو بمعنى أدق حياة مختلفة لأحد الكتاب، وعندما قالت الفائزة بالجائزة تلك السنة أنتونيا سوزان بيات أنها ستنفق مبلغ الجائزة في بناء حمام سباحة في بيتها الثاني، شعرت بمدى سخافة الأمر، ربما قالت ذلك لأنه في وقت الأزمة، والفوز بالجائزة هو وقت أزمة، يقول الناس أشياء غريبة، لكني لا أنكر أني ظللت بعدها ولسنوات أحلم أحلاما مائية يمكن أن أنفق فيها مبلغ الخمسين ألف جنيه استرليني إذا حصلت عليه، وأخيرا عندما فزت قررت أن أنفق جزءا من المبلغ في بناء حمام سباحة داخلي".

لم تكن هيلاري مانتل قد تم ترشيحها لجائزة البوكر قبل العام الذي فازت فيه، ولذلك تسأل نفسها فيما كتبته: "هل غيرت الجائزة حياة الفائزين بها كما غيرت حياتي؟، لقد ظللت لسنوات عديدة أعاني من الكبت المبتسم، وتهنئة الفائزين الآخرين، والعودة إلى المنزل مجهدة، وسيارات التاكسي، ولعبة الخنزير الأثيوبي، وممارسة ذلك النفاق مدعية أن الخسارة لا تعنيني، فعند خسارتك الجائزة تكون إنسانا سيئا، على الرغم من أنك ساعتها لست كاتبا سيئا بالضرورة، ولذلك في حفل توزيع جائزة مان بوكر، وبعد العشاء والخطابات التي استمرت طويلا، وحين تم إعلان اسمي كفائزة، قفزت من على الكرسي وشعرت أنني من آكلي لحوم البشر البدائيين، ولذلك أقول لك كصديقة طيبة، حاول أن تفوز بالبوكر في الوقت المناسب، كما عليك أن تفوز بها عن الكتاب المناسب أيضا، هكذا تقول الحكمة يا صديقي، لكن قلبي يقول لك: هذا هراء، عليك أن تفوز بالجائزة فقط والآن، ومع ذلك صدقني لن يشعر الكاتب الموجود بداخلك عند حصولك على الجائزة بأي مغزى لذلك التكريم، فالجائزة تحكم على عمل بمعايير داخلية يصعب تعريفها أو التعرف عليها من الأساس، ودائما ما تكون لدى الكاتب المحترف هموم دنيوية، ولذلك فأول سؤال يتلقاه الفائز من الصحافة "ماذا ستفعل بالنقود؟"، الحقيقة أنني كنت سأسترجع مرهوناتي وتسديد ديوني بأموال الجائزة، لكن هذه الإجابة لا تصلح لأن أقولها على الإطلاق، فالناس لا يحبون أن يفكروا في الكُتّاب بوصفهم مواطنين عاديين، لديهم ديون عليهم أن يسددوها، ولكن يحبون أن يفكروا بهم على أنهم يحيون حياة بذخ وإسراف على حساب الآخرين في مناخ دافئ، لذلك اضطررت أن أقول "سأنفقها على الجنس والمخدرات والروك آند رول".

لعلك حين تقرأ نصا جميلا كهذا، بعد أن تكون قد قرأت عن معاناة هيلاري مانتل الطويلة في الحياة، ستحرص على قراءة أدبها ما استطعت إليه سبيلا، وتزداد لشخصها حبا، وتشعر بأن الإلهام الذي تثيره قصتها بداخلك، أقوى من رغبتك في الحسد

تواصل هيلاري مانتل الحديث عن العلاقة الملتبسة بين الجمهور والكُتّاب قائلة: "يريد الجمهور أن يراك شخصا منعزلا عن المجتمع، صاحب ملكة عقلية خاصة ومتعودا على بعض السلوكيات الغريبة والمنكرة، وذلك سيبرر أي شيء تقوم به، ولهذا فالجمهور دائما ما يحب أن يعرف ما الذي يبعثك على الكتابة والإبداع؟، وما الذي يجعلك تكتب؟، أحيانا أود أن أجهض كل تلك التوقعات، وأقول إنها وظيفتي فقط، فأنت لا تسأل السباك ما الذي يدفعك لإصلاح الأحواض؟ لأنك تفهم أنه يصلحها ليقتات، فأنت لا تتخيله واقفا يقول "لقد قمت بتركيب هذا الحمام وحدي، أتريد أن تلقي عليه نظرة؟ لقد أعجب به جميع أصدقائي"، لكن عدم إفصاح الكتّاب بحقيقة أنهم يكتبون ليقتاتوا، وأن هذه هي وظيفتهم، يجعل الإصرار على أن الكتابة شيء عادي، أمرا لا يصدقه الناس، فالقراء يعتقدون أن شيئا غريبا لا يمكن حصره في كلمات، يحدث عندما يبدع الأديب عملا أدبيا ناجحا. فيعتقدون أنهم إذا قاموا بوكز ذلك الأديب بعصا لمدة طويلة، وبشكل قوي، سوف يذعن ويكشف عن ذلك السر، الذي قد لا يعرفه من الأساس، وربما لذلك يعتقدون بأهمية أن يتحدثوا مع الكتاب في لحظات تأثرهم، وأكثر لحظات الكاتب تأثرا هي لحظة حصوله على شيك مالي في تكريم ما، حيث تكون ابتسامته ممتدة ما بين أذنيه، وتملأ قلبه الشكوك الوجودية. عندما قال لي أحد المذيعين ليلة فوزي بالبوكر: لقد أصبحتِ الآن الكاتبة الأولى في العالم، قلت له: إنها ليست الأولمبياد، إن تقدم قلبك، والذي تمثله عملية الكتابة، لا يمكن قياسه كما يقاس تقدم الأقدام في السباقات.

ولكنك لا تستطيع أن تنكر أن هذا بات يحدث الآن. وفي ليلة من ليالي أكتوبر قد تجد نفسك متقدما في المبيعات على جي. إم كوتزي". (اختارت هيلاري اسم الروائي الشهير الحاصل على جائزة نوبل للآداب بالذات تقديرا منها لمشواره الأدبي، وهو بالمناسبة من الأسماء القليلة التي حصلت مثلها على جائزة البوكر مرتين).

تصف هيلاري مانتل مشاعرها التي أعقبت حصولها على الجائزة قائلة: "اكتشفت بعد الجائزة أنه من الممكن أن أعيش مع تناقضاتي، خاصة أنني لست مثل العديد من الكتاب، ممن ينسلخون من جلودهم ليوفوا بالمتطلبات التي تفرضها عليهم الجائزة، كالكاتب الذي يجد صعوبة في الخطابة ومواجهة الجمهور؛ فيضطر أن يخلق شخصية أخرى غير شخصيته لتتحدث في المحافل، يعتقد الناس أنه من البديهي أن يمتلك الكاتب مهارات التحدث والخطابة؛ ولكني كنت شاهدة بنفسي على مشاهد مأساوية في الحجرات الخلفية للمكتبات لكُتاب يتصببون عرقا، ويتلعثمون ويعانون انهيارا تاما قبل مواجهتهم لعشرين شخصا في مكتبة صغيرة. فبعضهم يحاول التجول في المكان اتقاءً لأي ضوء يتم تسليطه عليه، و بعضهم يهيم على وجهه بمجرد رؤيتهم للضوء، وبعضهم يخبئ "سكريبت" لما سيقوله على الأرض تحت الكرسي الذي يجلس عليه، ولكنني على أية حال أعتقد أن الكتاب الآن أصبحوا أفضل في عرض أنفسهم وكتاباتهم، مما كانوا عليه منذ عشر سنوات على سبيل المثال، فلقد كثرت المهرجانات وتوسعت فأصبح الكتاب أكثر تمرسا على مواجهة الجمهور؛ فمن الممكن جدا الآن أن يذهب الكاتب - إذا أراد- ليقرأ من كتاباته في احتفالات وندوات أو ما شابه مرة أسبوعيا، أما بالنسبة لي فيبدو الانتقال من المقعد إلى المسرح الذي سأقرأ عليه وأجيب على الأسئلة، شيئا طبيعيا لا غرابة فيه أو مشقة. فأنا أعتقد أن كتابة الأدب القصصي هو نسخة مكثفة من التمثيل، وكل كتاب من هذا الأدب هو مسرحية مطولة، فعند الكتابة يتقمص الكاتب شخصيات عمله الأدبي ليعيش فيها، بجسمها وجلدها وملابسها ويضع نفسه مكانها، ويتنفس هوائها".

حين كتبت هيلاري مانتل نصها الجميل هذا، كانت قد مضت تسعة أشهر على حصولها على جائزتها "البوكرية" الأولى، ولم تكن تعرف بالطبع أنها ستتلقى بعد أعوام جائزة بوكر ثانية، كانت تتحدث برضا بالغ عن أثر الجائزة على حياتها قائلة: "منذ تسعة أشهر مضت لم تعطني الجائزة إلا كل شيئ جيد، لكن حين أكون منشغلة بمشروع كتابة لا تلازمني فكرة أنني حاصلة على جائزة، ومع ذلك فهي تجعلني أتأنى أكثر، والحقيقة أن هذا التأني وبالتالي التأخير في الإصدار الذي منحته لي الجائزة أتاح لي أن أجد 30 ناشر في 30 دولة حول العالم، وجعل مبيعات كتبي تتضخم مما رفع من أرباحي، وبالتالي جعلتني الجائزة أكثر تحررا، ففي السنوات القليلة القادمة أستطيع أن أكتب ما يحلو لي، تماما كما كنت قبل أن أنشر كتابي الأول، فقد ظللت أكتب لمدة 12 عام قبل نشر أي شيء، وفي تلك الفترة كنت أشعر بالمغامرة، وبذلك النهم، وبتلك التوقعات السيئة أيضا، لكنني افتقدت كل تلك المشاعر بعد ما أصبحت كاتبة محترفة، قد تكتب من أجل النشر 800 كلمة في أي موضوع تحبه أنت ليتم تسليمه في موعده، لقد كان صعبا أن أحصل على دخل جيد من الأدب فقط، لكنني الآن أستطيع أن أفعل هذا، كما أستطيع أن أحصل على أي عدد من الدعوات لمهرجانات خارج البلاد، فقط إذا استطعت التخلص من مسئولياتي المنزلية، ومع ذلك لا زلت حين أستيقظ ولا أستطيع كتابة جملة جيدة، أدرك أن موهبتي لم تخذلني ولكن أعصابي هي التي تخذلني".

تختم هيلاري مانتل شهادتها حول علاقتها بالجوائز بربط جميل بين لحظات الخسارة التي عاشتها ولحظة الفوز التي حدثت لها قائلة: "في حفل الجائزة، إذا كنت أحد المرشحين المتوقع فوزهم، فسيخبرونك أنه في حالة فوزك، عليك أن تتحدث على الهواء مباشرة بعد دقيقة أو دقيقتين من إعلان فوزك، وأن عليك بعد هذا الحفل الطويل الذي ينتهي في وقت متأخر من الليل، أن تستيقظ مبكرا لأنك ستكون ضيف أحد البرامج الصباحية في التليفزيون، وأن عليك أن تظل تتحدث في البرامج التليفزيونية حتى منتصف الأسبوع، ويتم إعطاء جميع المرشحين نسخة من جدول أعمال الفائز ليضعها في جيبه أو حقيبته، وفي ظل ملابسات كهذه يصبح الجميع فائزين لساعات، أتذكر كيف ظللت أفكر قبل إعلان الجائزة فيما سيحدث لي لو فزت، وكيف سأخسر خطة عملي التي وضعتها مسبقا لهذا الأسبوع، وتبدأ في وضع جدولين من القرارات والمهام لنفسك، جدول ستقوم به إذا كسبت، وجدول آخر ستقوم به إذا خسرت، لكنني وأنا أرى الكاميرات أمامي تتحرك يمينا ويسارا وتعلو وتهبط، لتلتقط كلام رئيس الجهة المانحة للجائزة، فكرت في أن أي قرارات الآن تبدو تافهة، لأن الأهم الآن هو: هل ستفوز أم لا، هل ستتغير حياتك أم لا، كنت أود وقتها أن أهنيء نفسي و لكن ليس لدي سبب لأهنئ نفسي الآن، ولا حتى وقت لأفعل ذلك،  فأنت أيضا لا تعرف أنك الفائز إلا عند لحظة إعلان اسمك، فلا توجد حتى تلك الإشاعات التي تنتشر عادة قبل تسليم الجوائز، والآن وبعد أن كسبت، أتساءل ما الذي حدث لتلك المرأة صاحبة الجدول الثاني صاحبة ابتسامة الخاسر الحزين؟، فأنا لا أستطيع الكف عن القلق عليها، فهي الآن هاربة في ليل الخريف البارد، تتجول في شوارع المدينة بثوبها الذهبي".

ولعلك حين تقرأ نصا جميلا كهذا، بعد أن تكون قد قرأت عن معاناة هيلاري مانتل الطويلة في الحياة، ستحرص على قراءة أدبها ما استطعت إليه سبيلا، وتزداد لشخصها حبا، وتشعر بأن الإلهام الذي تثيره قصتها بداخلك، أقوى من رغبتك في الحسد، هذا إذا كان لديك شيء بداخلك تريده أن يصل إلى الناس، أما إذا لم يكن فالحسد سيكون طبعا أكثر متعة ومنطقية وراحة.

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.