هيلاري مانتل وحياتها المدهشة (2/3)

17 مارس 2021
+ الخط -

تقول هيلاري مانتل إنها لم تكن مهتمة منذ البداية بالكتابة عن الملوك أو النبلاء والأرستقراطيين، كما حدث فيما بعد، وأن ما دفعها للبدء بالكتابة عن الثوار الفرنسيين، غير كونهم شخصيات مثيرة للاهتمام، هو معرفتها القليلة بقصص حياتهم التي لم ترو بشكل جيد ومتماسك، فقد لقي أولئك الثوار حتفهم باكراً، لكن زوجاتهم وأهاليهم عاشوا، وحفظوا رسائلهم ويومياتهم، ولذلك كان هناك ثغرات عديدة في قصصهم يمكن أن يتدخل الخيال لملئها. وبعد جمع تفاصيل مختلفة عنهم، وتربيط تلك التفاصيل ببعضها، حاولت أن تعمق إحساسها الدرامي بالقراءة المتعمقة في المسرح، فقرأت الكثير من المسرحيات، وأحبت المسرحي الشهير برتولد بريخت ـ أو برتولت بريشت إن أحببت ـ وفكرت أنها ربما استطاعت أن تكتب رواية بريختية الطابع، خاصة أنها اكتشفت أنها تحب كتابة الحوار، ولذلك خرجت محاولاتها الأولى في قالب شبه مسرحي، وحين اختارت الشخصيات التي ستدور حولها روايتها، كان من أبرزها ثلاث شخصيات من أهم الأسماء التي ارتبطت بالثورة الفرنسية: روبسبير ودانتون وديسمولينز.

واجهت هيلاري صعوبة كبيرة في أن تصنع لكل شخصية صوتها الروائي الخاص، فقد لاحظت أن صوت روبسبير غير واضح مقارنة بصوتي رفيقيه اللدودين، لكنها استمرت في محاولة تجويد عملها، دون أن تقلق على كيفية ظهور ناتجه النهائي، واكتشفت خلال عملها أنها بدأت الكتابة وهي تكره روبسبير وتحب دانتون أكثر، لكنها مع تواصل الكتابة، وجدت أنها تحب دانتون أقل وتحب روبسبير أكثر، وأرادت أن تقنع القارئ بأن يشعر كما فعلت، لكنها ارتبكت وهي تحاول تحقيق ذلك، وربما ما جعلها تنجز الكتاب بشكل أفضل، هو أنها كانت منذ البداية تعرف مصائر كل الشخصيات التي ستموت في عز شبابها، ولذلك قررت أن تسمي الرواية "مكان أكثر أمناً"، ومع ذلك فقد شعرت بأن كل الشخصيات عزيزة جدا على قلبها، وشعرت بحزن شديد وهي تكتب مشاهد المقصلة التي كانت من أصعب ما كتبت في حياتها، بسبب التوحد الشديد الذي شعرت به مع الشخصيات.

بعد أن أنهت هيلاري روايتها التي بلغت 800 صفحة في عام 1979، وبعد خمس سنوات عصيبة من الكتابة، فوجئت برفض كامل لها من جميع الناشرين ووكلاء النشر، حيث اكتشفت أنه لا أحد مهتم بقراءة رواية تاريخية، حتى أنها تتذكر كيف أرسلت رسالة إلى دار نشر ترجو فيها قراءة روايتها التي تتحدث عن الثورة الفرنسية وتصف روايتها بأنها ليست رواية تاريخية رومانسية، ليأتيها خطاب اعتذار قصير من الناشر بأن الدار لا تنشر الروايات التاريخية الرومانسية، مما يعني أن الدار لم تقرأ رسالتها القصيرة فضلا عن قراءة الرواية الضخمة نفسها. 
لم يكن الوقت الذي أرسلت فيه هيلاري الرواية للناشرين مناسبا لتقبل الروايات التاريخية، برغم أنه قبل ذلك بسنوات، كانت روايات تاريخية عديدة قد شهدت نجاحا كبيرا، لكن حظ هيلاري لم يكن سعيداً مع النشر والناشرين، وفي ذلك الوقت العصيب، بدا لها أن حياتها تنهار، فزواجها كان يعاني من مشاكل حادة، وحالتها الصحية متدهورة جدا، وفي ظل كل تلك الظروف الدافعة لليأس، اتخذت قراراً أنها تريد أن تصبح روائية وأنها لن تفعل شيئا آخر في حياتها، ولذلك قررت أن تجرب كتابة شيء مختلف تماما عن الرواية التاريخية، وأنها لن تكتب رواية ضخمة، بل ستكتب رواية معاصرة في مائتي صفحة، وإذا فشلت تلك الرواية أيضا، فإنها حينها ستفكر في شيء آخر يجب أن تفعله في حياتها.

بعد أكثر من 15 عاماً على تلك الليلة، وبعد أسبوع من فوزها بجائزة مان بوكر، أصبحت هيلاري وجهاً معروفاً لدى الناس الذين شاهدوا وجهها المنتصر

ونتيجة لذلك القرار، كتبت هيلاري روايتها الأولى (كل يوم هو عيد الأم)، مستمدة أحداثها من تجربتها في العمل في مستشفى المسنين، وكتبتها بروح أقرب إلى الكوميديا السوداء لتروي قصة أرملة مؤمنة بالأرواح وقوة تأثيرها على البشر، تكتشف أن ابنتها المعاقة ذهنيا حامل، وبعد أن نجحت الرواية وتلقت عنها العديد من العروض النقدية الجيدة، قامت باستكمال أحداثها في روايتها التالية (ملكية شاغرة)، وإن كانت قد أدخلت شخصيات جديدة وتخلت عن بعض الشخصيات الموجودة في الرواية الأولى، وربما كان ذلك بداية لتجريب قدراتها في الكتابة طويلة النفَس، والأهم قرارها بأنها ستواصل الكتابة ولن تفعل شيئا آخر، ولذلك بعد عودتها إلى بريطانيا، لم تكتف بالكتابة الروائية، فقد عملت ناقدة سينمائية لمجلة (ذي سبيكتاتور) العريقة، وبدأت في كتابة العديد من المراجعات النقدية لعدد من الصحف والمجلات البريطانية والأمريكية، لتواصل مسيرتها الأدبية بإصرار وعناد، متخطية كل الصعوبات وخيبات الأمل، حتى فتحت لها أبواب المجد عقب فوزها بجائزة البوكر، لتتغير حياتها بالكامل.

لكن، ما الذي فعلته الجوائز وأموالها بحياة الروائية البريطانية هيلاري مانتل، وكيف ابتسم لها الحظ بعد مسيرة مليئة بالمعاناة، لتتغير حياتها أخيرا بعد حصولها على جائزة بوكر للمرة الأولى؟

سيساعدنا على الإجابة على هذه الأسئلة نص مهم نشرته هيلاري مانتل عام 2010 في مجلة "ذي نيو ستيتسمان" البريطانية، وكنت قد احتفظت به لسنوات بعد أن أعجبني ما كتبته فيه بتواضع شديد وروح مرحة عن تطور علاقتها المعقدة بالجوائز منذ أن بدأت الكتابة وحتى حصلت على جائزة البوكر في عام 2009، وأعتقد أنه يستحق القراءة الآن بعد مزيد من الجوائز والنجاح الذي حصدته خلال الأعوام التي أعقبت كتابة ذلك النص، والذي بدأته بالحديث عن تجربة ترشيح روايتها (تغيير في المناخ) التي نشرتها عام 1994، ضمن قائمة قصيرة من الروايات للحصول على جائزة تخصص للروايات التي تحمل طابعا دينياً أو تقدم مغزى وعظياً يهدي الحيارى إلى سواء السبيل.

كانت هيلاري قد فوجئت بالتعامل مع روايتها بوصفها ذات طابع ديني، فقد كانت الرواية تقدم القضاة بشكل جرئ عن المتعارف عليه أدبيا في بريطانيا التي يحظى نظامها القضائي بتقدير شعبي كبير، وحين أعادت تأمل روايتها وجدت أن ما دفع المسئولين عن الجائزة للتعامل مع الرواية بوصفها رواية دينية، هو أن "أبطال الرواية كانوا مبشرين مسيحيين يشعرون أن الرب يراقبهم جيدا، ويمرون بتجارب تزعزع إيمان أي إنسان، ولم يعد الدين بالنسبة لهم سوى مجموعة من العادات والسلوكيات، لكنهم مع ذلك يقاومون بكل جهدهم ليكونوا أناسا صالحين، لأنهم لا يستطيعون فعل شيء آخر غير أن يكونوا صالحين"، وأملا في الحصول على قيمة الجائزة التي كانت تحتاج إليها لم تنشغل بتصحيح فكرتهم عن الرواية.

دعيت هيلاري مانتل لحضور حفل إعلان الجائزة، في تجمع لا يحضره أشخاص مهمين في دار نشر قريبة من المتحف البريطاني، كانت تلك المرة الأولى التي تحضر فيها هيلاري احتفالا أدبيا، وكان يبدو أن بعض المدعوين للحفل يحتسون في خجل شديد شرابا كحوليا للمرة الأولى في حياتهم، وبعد نقاشات طويلة علا فيها الحديث عن الدين والله والأخلاق، ليخفي حقيقة الصراعات والنزاعات الموجودة بين الحاضرين الراغبين في الفوز، وبعد إعلان اسم الفائز الذي كان شخصا غير هيلاري، خرجت لتستقل تاكسي وهي تشعر بذلك النوع من الراحة التي يشعر بها الإنسان بعد أن تضيع عليه رحلة كان يمكن أن تجهده "على الفاضي".

واجهت هيلاري صعوبة كبيرة في أن تصنع لكل شخصية صوتها الروائي الخاص، فقد لاحظت أن صوت روبسبير غير واضح مقارنة بصوتي رفيقيه اللدودين

 

تقول هيلاري ساخرة من حياتها ونفسها في تلك اللحظة: "قلت في نفسي إنني لم أكن أتوقع أن أفوز بالجائزة، وبينما كان التاكسي يتحرك ببطء شديد في زحمة المرور، بدأ يهتف بداخلي صوت يحثني أن أكتب شيئا شريرا، شيئا شاذا، شيئا يجعلني أحظى بلقب سيدة الفساد الأخلاقي، فأضمن لنفسي ألا يتم ترشيحي لهذه الجائزة الدينية مرة أخرى؟، ولكن ما الذي يمكن أن تفعله بنفسك وأنت تجلس في الكرسي الخلفي لتاكسي يذهب بك إلى جسر ووترلو، جلست أتمنى أن أصب كأس الشر كاملة في عمل أدبي، لكنني وجدتني بلا أفكار، وكنت أستطيع أن أميل برأسي خارج نافذة التاكسي مظهرة وجها قبيحا للمشاة من حولي، لكني فكرت أنهم ربما شعروا أن هذا هو وجهي الفعلي".

وبعد أكثر من 15 عاما على تلك الليلة، وبعد أسبوع من فوزها بجائزة مان بوكر، أصبحت هيلاري وجها معروفا لدى الناس الذين شاهدوا وجهها المنتصر، وأحبوا ابتسامتها التي تشبهها هي ساخرة بانحناءة حبة القرع العسلي، وذات ليلة شعرت بالارتباك وهي تستقل المترو عائدة إلى منزلها، فتبعتها امرأة ذات وجه أحمر شاحب وهمست لها مهنئة وهي تربت على كتفها، كان ذلك شعورا جديدا ومربكا بالنسبة لكاتبة أنجزت أكثر من عشرة أعمال قبل حصولها على الجائزة، ومع ذلك كانت تواجه مشكلة في أن يعرفها بائعو الكتب حين تقف بجوار الأرفف التي تحوي كتبها.

تقول هيلاري متأملة رحلتها مع الفشل في الحصول على الجوائز: "الحقيقة أنني متمرسة في القوائم القصيرة، لقد قضيت عمري كله محشورة في تلك القوائم، وفي حضور حفلات إعلان الفائزين المزدحمة بالبشر، حيث أشاهد الفائز ينعم بفلاشات الكاميرا، جلست مرة في احتفال بمدينة مانشستر لمدة خمس ساعات، في حفل جائزة كنت مرشحة لها، وفاز بها أنطوني بوجرس، الذي لا زلت أذكر كيف وقف وهو نحيل طويل كبير السن، ناظرا إلي من أعلى، وفي يده شيك نقدي قائلاً "أعتقد أنك تحتاجين هذا أكثر مني"، وعندها فكرت في عمل شرير، وهو أن أخطف الشيك منه وأضعه في جيبي، بعد مساء كهذا يكون من الصعب أن تنام، لأن فشلك يتحول إلى فوضى تتمخض بداخلك، وترن في أذنيك مقتطفات من كلمات رعاة المسابقة، وهمسات المحكمين المواسية، وعندما وصلت إلى المنزل بعد فشلي للمرة الثانية في الحصول على جائزة صنداي اكسبريس لكاتب العام، وقدرها عشرون ألف جنيه استرليني، ظهر جاري الصبي الصغير في شرفة منزله، وسألني "فزتِ؟"، هززت رأسي بالنفي، قال لي تلك الكلمة التي يقولها لي كل الناس في ذلك الموقف "لا عليكِ"، لكنه بعدها قال لي ما لم يقله لي غيره "ما رأيك لو تأتي لتلعبي معي بخنزيري الحبشي؟". في الحقيقة لهذا خُلق الأصدقاء، فأنت في لحظة فشلك تريد إما الإلهاء عن الفشل، أو العودة إلى المنزل لتبدأ بمنتهى التحدي كتابة فقرتين في عملك القادم، لكن في ترشيحي للمرة الثالثة لجائزة صنداي اكسبريس، فزت بالجائزة، وعند إعلان الفائز شعرت كأن صينية ثلج كبيرة صُبّت فوق رأسي، واندفعت وسط الزحام، شاقة طريقي بمرفقي، وأخذت أضرب أضلع المدعوين حتى أجد مكانا في المقدمة، وأوقفني أحد المنظمين عن الانصراف بعد أن تسلمت الشيك لكي يتسنى للصحافيين التقاط صورهم، فهل شعرت وقتها بأنني مغفلة؟، لا لقد شعرت أنني غنية".

ولكيلا يظن القارئ الظنون بسعيها إلى أموال الجوائز الأدبية، تتحدث هيلاري مانتل في نصها عن أهمية الجوائز الأدبية في هذا العصر بالنسبة للكتاب، لأن الدخل الذي تدره الجوائز على الأديب أصبح أكثر أهمية من الحصول على الجوائز نفسها، فضلا عن كونها تجذب انتباه وسائل الإعلام للأديب، خاصة إذا كان أعضاء لجنة التحكيم مشهورين، مما يزيد مبيعات الكتاب بعد الحديث عنه في وسائل الإعلام، خصوصا إذا كانت سوق الكتب تعاني من الركود، ولذلك شعرت هيلاري بالفرق بين 12 جائزة صغيرة حصلت عليها قبل جائزة مان بوكر، وبين ما حدث لها من مبيعات واهتمام بعد جائزة مان بوكر، تقول لتجسيد ذلك الفرق "في الثمانينات والتسعينات كانت مبيعاتي أقل وبدت الجوائز وكأنها صراعات، وبرغم أن النقاد كانوا كرماء معي إلا إن كتبي التي نشرتها على مدى عشرين عاما لم تكن تحقق مبيعات عالية، ولكن بعد دقائق من تسلمي الشيك من لجنة تحكيم جائزة مان بوكر ضربت احدى صديقاتي على جهاز في يدها وقالت لي: لقد تصفحت موقع أمازون الآن ووجدتك تحتلين المركز الأول، لقد تفوقتِ على دان براون".

....

نختم غداً بإذن الله.

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.